«ما بعد العاصفة» للياباني هيروكازو كوريدا.. الخيبة وصناعة البطولة
باريس «القدس العربي» من سليم البيك: فيلم آسيوي من تلك التي تجد الطيبةُ والحميميةُ في المشاعر مكاناً واسعاً لها، في بيت ضيّق، بيت والدة الشخصية الرئيسية في الفيلم، وفي الخيارات الضيقة للشخصيات، وهي أربع شخصيات: البطل وطليقته وابنهما، وأمّه. هذا الضيق في الحياة الذي نشاهده على الشاشة أتى بحميمية تغذّت من العاصفة في الخارج، ما جعل النّاس يمكثون في بيوتهم، حيث انحبس الأربعة وأمضوا ليلة لم يعرف أحد منهم أن ينام فيها.
هذه الأجواء الهادئة رسمتها الشخصيات الرئيسية في الفيلم، جميعها، باستثناء الطفل ربما، حتى النقاشات بين البطل وطليقته، التي يرغب بعودتها إليه، كانت هادئة. ولم يكن هذا الهدوء خالياً من سوء الحظ أو البؤس، سوء حظ البطل، من الناحية العاطفية والزوجية، كما من الناحية المهنية، فهو روائي تجبره الظروف على الكتابة لرسوم المانجا.
فالبطل، ريوتا (هيروشي آبي)، تتركه زوجته كيوتو (يوكو ماكي) بسبب انشغاله بنفسه وعدم أهليّته للصرف على ابنهما الوحيد، كما أنه بالنسبة لابنه ليس أباً كفؤاً، ولا هو أخ كفء بالنسبة لأخته، التي تخبّئ منه بطاقات اللوتو، هو جيّد فقط بالنسبة لأمّه التي لن تكون نظرتها له، في كل الأحوال، حيادية. لكنّه ليس شريراً، بل لم يظهر في الفيلم إلا الرجل الطيّب الذي يعجز، لطبيعته البسيطة، عن إقناع من حوله بخلاف آرائهم فيه. قد تكون آراؤهم، أخته مثلاً، متعلقة بمهنته كروائي، فهي لا تخفي انزعاجها منه لكونه أشار إلى أسرار عائلية في الرواية.
جلبت الرواية الأولى لريوتا الشهرة، لكنه لم يحتفظ بمستواه الأدبي، فصارت تأتيه عروض الكتابة للمانجا، وهي معنوياً أدنى له من الكتابة الروائية، وإن كانت أكثر دراً للنقود، كما أنه عاد إلى مهنته الأولى وهي التحرّي، فهو متحر خاص يلحق أشخاصاً ويلتقط صورهم ويسجّل ملاحظات تجاههم، بإمكانه أن يفعلها لمشاريعه الروائية، لكنه هنا يفعلها تحت طلب عملائه مقابل المال.
لا نراه يكتب في الفيلم، أي لا نراه يمارس الشيء الوحيد الذي يحب ممارسته، بل نراه يتجسس على زوجته، إذ يمارس مهنته كمتحرٍّ خاص على زوجته، وبدافع ذاتي، يراقبها هي وابنهما وصديقها الجديد، دون أن يجرؤ على الاقتراب، ودون أن يستثمر لشيء هذا التجسس، لنعرف أكثر، كمشاهدين، مدى بساطة هذا الرجل وهشاشته، وكذلك سلبيته تجاه مشاعره الأكثر حميمية.
الفيلم هنا فيلم بطله، حتى الأجواء الهادئة فيه هي انعكاس للهدوء لدى ريوتا، وسلبية ردود فعله مع الجميع. السلبية المنكفئة غير المؤذية إلا صاحبها. الأساس في الفيلم هو علاقاته بمن حوله، إذ يتم تقديم الشخصيات الأخرى بالعلاقة معه، نعرف أمّه من خلال ما نعرفه من علاقتها معه، من كلامها وسلوكها تجاهه، وكذلك الحال مع أخته، وكذلك طليقته وابنه، جميعهم تم تقديمهم بما هم بالنسبة له، والسمات الأبرز لشخصياتهم قُدّمت بما هي عليه أثناء الحديث معه، مضمون الحديث وشكله.
والعنوان وثيق الصلة بريوتا، بشخصيته، فكان «ما بعد العاصفة»، والهدوء الذي يسبق العاصفة، ويلحقها، بالمقارنة مع الضجة التي تحدثها، أتت مقرونة بشخصيته كما هي، قبل العاصفة وبعدها، وأثناءها وقد أمضوا جميعاً الليلة في بيت أمّه الدافئ. لكن أكثر ما يمكن ربطه بين فكرة العاصفة وريوتا، وهي هنا مسألة درامية أساسية، هي عدم التطوّر في شخصيته، فهو هو في المشاهد الأولى للفيلم كما في مشاهده الأخيرة، أي أن الحال هي نفسها قبل العاصفة وبعدها. يبدأ الفيلم به وحيداً وينتهي كذلك، يبدأ به خائباً من الناحية المهنية والعاطفية، وينتهي كذلك، حتى علاقته بطليقته، التي حاول مراراً إقناعها بالعودة إليه، لم تتغير، ففي بداية الفيلم كما في نهايته، يمشي هو في طريق وهي في آخر، هي مع ابنها لتلتقي بصديقها وهو ليمضي اليوم لوحده، في بيته الضيق والفوضوي في طوكيو، محاولاً العودة إلى الكتابة، لكنه لا يفلح في أن يخرج من روتين البؤس الهادئ الذي يعيشه، والذي طبع الفيلمَ بأكمله. ولن نستطيع، أخيراً، إلا نتعاطف في الفيلم مع جميع شخصياته، في الوقت ذاته نُعجب بالرجل وبطليقته، ونرى أن كليهما على حق.
الفيلم، (After the Storm)، شارك
في مهرجان كان الأخير، في تظاهرة «نظرة ما»
ويُعرض حالياً في الصالات الفرنسية
«ما بعد العاصفة» للياباني هيروكازو كوريدا: الخيبة وصناعة البطولة