محنة اصطلاح السرد
مما يتصف به النقد العربي نقل الأثر الذي يتخلف عن الطروس، وما يتبقى من الاستعمال في هيئة محو مضاعف ومكرر ويعاني الاصطلاح النقدي من جراء ذلك محنا، لا تقل عن محن الهزائم العربية، وعن محن الديار المدمرة، ويتجلى هذا في الاستعمال الاصطلاحي الذي لا يتعدى كونه نقلا عن النقل مرورا بأفهام مختلفة من دون تمحيص، أو مراجعة، أو تأصيل، هذا فضلا عن غياب البعد النقدي الذي يمنح الاصطلاح صلابته النظرية والإجرائية.
ومن ضمن الاصطلاحات التي هي رائجة في حقلنا النقدي، وتعاني من لغط خرساء اصطلاح السرد الذي أصبح استعماله بمثابة كلمة ملقاة في الطريق يركبها من يشاء، فتعني كل شيء، ولا تعني أي شيء تحديدا، حتى إذا ما رمت الخروج منها بغرض ما لم تلو إلا على شبة لغو يعقبه اللغو، فلا طائل من ورائه. والأغرب في ذلك أن تلمس هذا الاستسهال غير المقبول عند أسماء نقدية لها وزنها في العالم العربي. وإذا رمنا التنبيه إلى ما يعنيه هذا الاصطلاح فإننا عازمون على مراجعته حتى في مجاله الأصلي، وأقصد بذلك الأدبيات الغربية التي أسست له. وعمادنا في ذلك الوقائع والحقائق، لا غير.
وضع اصطلاح «السرد» في اللغة العربية مقابلا للفظة اللاتينية narration، والتي هي مشتقة من فعل narrer، وقد تلقت حمولات مختلفة في النقد العربي، وروجعت مرارا من قبل الأكاديمية الفرنسية. ولا يعدم المطلع التنبه إلى ما طالها من تعميم والتباس، لا في النقد العربي فحسب، وإنما في النظرية الأدبية والنقد الغربيين أيضا. ولا مندوحة في أثناء مراجعته من التذكير باصطلاحين يتعالق معهما في النظرية السردية، وهما: الحكاية histoire، والحكي récit. وقد نُظر إلى الحكاية بعدّها مجموعة من الأحداث التي تتعاقب مرتبة في الزمان، ومن ثمة فهي دالة على المحتوى (و/أو المدلول) الحدثي، وهي غير الحبكة، وقد أشير إليها من قبل الشكلانيين الروس باصطلاح الخرافة fable(توماشوﭬسكي). أما الحكي récit فقد أخذ حمولة نُظرية تجعل منه مماثلا للخطاب، بل سُمي كذلك، ويقصد به الطريقة التي تصاغ بها الأحداث، وتنتظم بغض النظر عن كرونولوجيتها، أو تعاقبها الأصلي في الزمان، كما أنه قورن بالدال (ت.تودوروف، وج. جينبت)، وقد خصه الشكلانيون الروس باصطلاح المبنى sujet (توماشوﭬسكي).
وإذا كان لنا هنا من اعتراض فإنه يتعلق بإعادة ترتيب ما حُدِّد آنفا في سياق نظرية التلفظ. فكل من اصطلاحي الحكاية والحكي يشكل الملفوظ السردي، بينما يضطلع اصطلاح بتعيين محفل التلفظ، وهكذا يصير دالا على فعل السرد، بوصفه داخلا في مجال الأمبيريقي، لا المجال المعرفي التصنيفي، ومن ثمة يشير إلى العملية التجريبية التي يُنتج النص السردي بوساطتها. ومن الأكيد أن اقتراحا من هذا القبيل يفضي بالسرد إلى أن يشتغل في هيئة محدد للوضعية- سواء أكانت واقعية أم متخيلة- التي ينتج داخلها فعل السرد، وهنا يصبح الحديث عن المروي فيه مبررا (ج. جينبت FigureIII). ويقتضي هذا الفهم استحضار كل من السارد والمسرود له، وزمن إنتاج فعل السرد الذي يتميز عن زمن الحدث، وزمن نقله أيضا، وزمن تلقي فعل السرد، والظروف التي يحدث فيها. ويتبين لنا انطلاقا من زاوية النظر هاته أن مفهوم الخطاب أكثر انطباقا على السرد منه على الحكي، لأن المهمة الرئيسية لهذا الأخير لا تكمن البتة في معالجة وضعية إنتاج فعل السرد وتلقيه، وما يحيط بهذه الوضعية من ظروف، سواء أكانت هذه الظروف واقعية ملموسة أم نصية. ولا مناص- هنا- من أخذ تمثلات القارئ (و/ أو السامع) بعين المراعاة، فلها تأثير في صيرورة إنتاج الخطاب السردي، وبخاصة مراعاة ما يجعله أكثر تعاطفا أو نفورا تجاه ما يروى له، كما هو الحال بالنسبة إلى تمثلات الخير والشر في الحكي العريق الشر (ج.م. آدم). ويمكن أيضا تحديد السرد انطلاقا من الثنائية الأمريكية (الحكي telling / الإظهار showing)، فالحكي هو حكي الماضي، ونقل له، بيد أنه يعد في لحظة السرد نقلا من طريق الإظهار؛ أي في زمن فعل السرد بوصفه متعينا في حاضر النقل (جون بسيير).
لا يشير الحكي بموجب الشروط النظرية التي أتينا على ذكرها إلى الخطاب، كما ظن ج. جينبت، وإنما إلى الملفوظ في وجهه المادي اللساني، ومن ثمة فهو ذو صلة بما هو تركيبي ودلالي، بينما يشير السرد إلى التلفظ لأن له صلة وطيدة بوضعيتي الإنتاج والتلقي، وبالظروف المحيطة بهما، أو بالمروي فيه. ومن ثمة يعد السرد ذا طبيعة تداولية، كما أن فعله هو الذي يسمح بتكون كل من الحكي والحكاية. وينبغي ألا نتجاهل في هذا الصدد الأصل القديم للسرد، فهو يحمل في طياته بوصفه فعلا أثر الموروث الحكائي الشفهي. بيد أنه إذا كان موصوفا على هذا النحو، فلا يعني أنه هو هو في كل خطاب، وكل قناة تواصلية، بل يختلف شفاهة عنه كتابة. فوضعيتا لإنتاج والتلقي تتأسسان- في حالة الشفاهة- وفق تقاليد تخص طرق تقديم الحكاية وبنائها، وتلقيها بمراعاة صيغ محددة استجابة لما تفرضه آلية التخزين بواسطة الذاكرة من إرغامات، واستجابة إلى الحالة التي يكون عليها محفل الاستماع. وتصير هذه التقاليد في حالة الكتابة عرضة للتغير بحكم أن فعالية الذاكرة ودورها يتراجعان لصالح التدوين، بما يسمح لفعل السرد بتنويع طرق نقل الحدث، والعناية بالاستطرادات، والتشعبات العمودية، بما يعنيه ذلك من انفتاح على الوصف، ونقل التفاصيل، واستيعاب أنواع الخطاب المختلفة، ونقل الأفكار…الخ. وحين نتحدث عن السرد بوصفه متعلقا بوضعية تقتضي الضرورة الإشارة إلى كون فعل السرد يستضمر في بنيته متلقيه، سواء أكان مستمعا أم قارئا.
لا يقتصر تحديد السرد على عده فعلا يتكفل بنقل الأحداث إلى متلق ما (قارئ و/ أو مستمع) فحسب، بل يتعدى ذلك إلى النظر إليه بوصفه إنتاجا لغويا، لكن ينبغي ألا تبلغ الحماسة النظرية في هذا الجانب إلى إمكان عده معادلا لفظيا لوقائع غير لفظية أو لفظية (ج. جينبت)، فقد يكون هذا النوع من التحديد كرما في غير محله، لأن هذا الاتصاف لا ينطبق على السرد فحسب، وإنما يقبل الانطباق على غيره من الخطابات المغايرة له وظيفة ومبنى من قبيل التعليق مثلا، ثم أن السرد قد يتم بوسائل أخرى غير اللغة من قبيل الصورة في السينما. هذا فضلا أن تحديدا من هذا النوع يختزن فهما ميكانيكيا للغة، فلا معادل لفظيا للواقع، فكل ما هنالك هو تقريب له فحسب. بدلا من ذلك ينبغي التفكير في كون السرد يتأسس على إجراءات لسانية ينتهجها السارد في فعله، بما يعنيه ذلك من احترام صياغات معينة أو خرقها، ومن بناء لجمل سردية في حضن التفاعل الحيوي المتضافر للغة بوصفها تجربة، وهنا ينبغي التفكير في الأمر من زاوية منطق الصيغ، والعوالم الممكنة في تحديد علاقة السرد باللغة، ومراعاة التفاعل بين الجزء والكل، والذهني والبارغماتي المحقق.
ولا يستقيم التفكير في السرد بوصفه فعلا مرتبطا بوضعيتي الإنتاج والتلقي إلا بمراعاة كونه يُنتج في ضوء تقاليد وسنن تتحكم في نقل الماضي المسرود، أو في ضوء خرقها، ومعنى ذلك أن فعل السرد لا يتحقق إلا في الإطار الذي يكون فيه مرتبطا بالتمثيل في عصره، وبالمبادئ التي تنظمه، وتمنحه أسسه الكبرى. ولا نقتصر الأمر- هنا- على تمثيل العالم، بل يتعداه إلى الطريقة التي يتمثل بها الفعل السردي نفسه، ويتأملها، وبخاصة الطريقة التي يتبعها في بناء علاقته بالعالم السردي من جهة، وعلاقته بالقارئ من جهة أخرى، ويظهر هذا الأمر جليا في ما يسميه الشكلانيون الروس بالتعرية، أو في ما يُشار إليه بتقنية التنظير الداخلي؛ حيث تُعطى بعض المعلومات النظرية حول العمل السردي من داخله.
كما سيكون من المفيد ربط فعل السرد بالذاكرة، أي عده فعلا من أفعالها، فالسارد الشفهي لا ينقل إلى مستمعه مرويا يخلقه في لحظة السرد الجارية في الحاضر، وإنما ينقل شيئا سمعه من قبل، واختزنه، ومن ثمة يكون فعله بمثابة معرفة معرضة إلى عوامل النسيان، ولهذا الاتصاف تبعات، على مستوى مهارة الأداء، حيث يعمل السارد على الالتفاف على عجز الذاكرة إما بالإضافة أو الحذف. ومن الأكيد أن فعل السارد لا ينفلت أيضا- في مجال السرد الكتابي- من ألاعيب الذاكرة، فإذا لم نشأ أن نعد فعله من صنع الذاكرة برمته، فهو في حاجة- على الأقل- إلى عونها في مستويات عدة: مستوى تمثيل الغياب، ومستوى تأثيث ما هو مفهومي أَنطولوجيا (بفتح الهمزة) بتذكر تفاصيل عناصر العالم انطلاقا من التجربة، أو الخبرة، ومستوى الاختيارات اللغوية، وبخاصة ما تعلق منها بالمعجم.
تبين لنا من خلال هذه المراجعة النظرية أن من عدّ السرد مقولة متعالية إجناسية مهيمنة قد استسلم لوهم نظري لا يصح على الإطلاق، فهو خاصية إنتاجية قد ترد في نصوص تخييلية مختلفة غير حكائية (الشعر مثلا)، أو غير تخييلية (الإشهار، التاريخ، محضر حول جريمة…الخ)، هذا إلى أنه ذو صفة تجريبية ملموسة؛ أي أنه يرتبط بما هو نصي، أو إنجاز ملموس. ولا يمكن بموجب هذا القيد عده عنصرا حاسما في تحديد الجنس الأدبي، وإنما يمكن أخذه بعين المراعاة إلى جانب عناصر أخرى في هذا التحديد، فمن دون هذا يبقى السرد مجرد طريقة في نقل الغياب.
أكاديمي وأديب مغربي
عبد الرحيم جيران
كلمة حق صراحة بدلاً من الدوران في حلقة مفرغة