مدينة السّاعات الرّمادية
استيقظت بتثاقل. مزاجي لم يكن في أحسن حالاته. فتحت عينيّ واستسلمت لفكرة سوداء. الموت جرّاء الرّكض في حقل أفاعٍ. الوقت كان صباحا. السّاعة لا أعلم.
تذكّرت أنّني على موعد مع لجنة لدراسة مشروع فضاء ترفيهي على السّاعة الثّامنة. كنت ضمن خمسة مهندسين ممن قدّموا تصاميم افتراضية للمشروع. وعزمت خيرا في هذه الفرصة التي قد لا تتاح لي مرّة أخرى.
تفقّدت ساعتي ولم أجدها. وضعتها بجانب رواية «كتاب الضّحك والنّسيان» لكونديرا قبل أن أخلد إلى النّوم. أردتها أن تتّخذ مع الكتاب رونق شيء عتيق. مثل منحوتة من البرونز لقائد أسطول بحريّ، أو لوحة زيتيّة من المدرسة التّكعيبيّة. بحثت عنها مجدّدا وعبثا حاولت ذلك.
حتّى هاتفي مغلق. نسيت شحن البطاريّة. كان يجدر بي أن أنتبه لذلك. وسرعان ما قرّرت الذّهاب إلى المقابلة المهنيّة عسى أن أوفّق في الوصول في الوقت المحدّد. حبّذا قبل الموعد، بعده، حاولت نفي تلك الفكرة عن ذهني. خرجت مسرعا. حتّى أنّني لم أتناول فطوري ولم أكلّم أحدا من العائلة. غادرت المنزل بصمت يشي بارتباك. ما إن اجتزت شارع حيّنا حتى توقّفت أمام بنايات شاهقة. بعضها أعلى من بعض وبعضها مائل يتصدّع فيتهاوى ثمّ يستوي. المقاهي مزدحمة بأناس رماديّين. يرشفون القهوة على عجل ثمّ يعيدون الفناجين فارغة ويطلبون أخرى. صرفت انتباهي عن أمر المقاهي والرّماديّين. وألفيت أناسا يدخلون مدينة ملاهٍ مسرعين. كنت على عجل أيضا فانسقت إلى ذلك الدّفق البشريّ وهممت باقتطاع تذكرة دخول. نظرت عبر شبّاك بلّوري متفحّصا، فلمحت شيخا شاحب الوجه غائر العينين وخيّل إليّ أن شاربيه كجناحي خطاف واعتقدت لوهلة أنّهما سيخفّقان ويحملانه إلى مكان ناء فيه الكثير من المحار وسرطانات البحر وأسماك قرش أليفة صفراء.
– تذكرة دخول لو سمحت.
قلت وأنا ما أزال أستقرئ وجهه بإمعان.
سلّمني التّذكرة بيدين مرتعشتين وسلّمته ثمنها. سحب ثلاثة دنانير بسرعة واعتكف داخل حجرته الصّغيرة منزويا في ركن مظلم وبشكل ما تهيّأ لي أنّه أمسك مسدّسا وفجّر رأسه. ابتعدت خطوات قليلة ثم التفتت مجدّدا ناحية الشبّاك ورأيت شاربين مفتولين يرفرفان ثمّ غادرا مدينة الملاهي، وحسبي أنّهما لن يعودا أبدا. انتابني هلع وحزن. عدا أنّه لم يكن من بدّ للمغادرة. ربّما جرّاء خوف مبهم. خوف رماديّ.
وقفت أمام دولاب هوائيّ هائل. كان يدور حول اسطوانة كهربائيّة تشدّها أوتاد عملاقة. عرباتها معلّقة كأقراط. فكّرت أن أركب اللّعبة. واعتقدت بادئ الأمر أنّها ساعة كبيرة تشير إلى وقت محدّد فقرّرت الولوج إليها وكان إلى جانبي نفر قليل من أطفال رماديّين وأمّهاتهم اللّواتي ما فتئن يوصينهم بالتزام التّعليمات المشار إليها عند الدّخول. ركبت عربة ولم أجد صعوبة تذكر في إيجاد مكان شاغر، حيث كانت الأماكن متاحة وبوفرة. دار الدّولاب ببطء وارتفع بنا. أصابني شعور سخيف. لم أعر ذلك اهتماما يذكر عدا فكرة حامت حواليّ فحواها أنّ الرّؤية من أعلى ممتعة. وكلّما نظرت إلى أسفل ألمح عددا هائلا من أناس رّماديّين يلوّحون لي بحماسة. بعضهم يتوعّدني بعقاب أو شيء مثل نهاية سيّئة. لم أستطع إنكار جزعي فحملقت بعيدا وتصنّعت هدوءا ولطفا. وصلت إلى أعلى نقطة وأشرفت على المدينة وأمكن لي تبيُّنُ جهاتها الأربع.
كانت المباني قرمزيّة تشبه الفاكهة. فاكهة مستطيلة قرمزيّة. السيّارات تسير إلى الخلف. سيّارتا إسعاف تسرعان باتّجاه المجمّع التّجاري الواقع وسط حيّ الأعمال الفخم. أكمل الدّولاب دورانه ونزلنا إلى أسفل. شعرت بدوار خفيف وأحسست بثقل ووهن. خمّنت أنّ الزمن متوقّف لبرهة. ربّما تكون السّابعة صباحا أو الخامسة مساء أو أنّ الوقت اختفى تماما. كيف يختفي الوقت؟ لابدّ أن يتغيّر شيء ما باختفائه. غادرت مدينة الملاهي بحثا عنه في المحلّات التّجاريّة والفنادق والمعاهد، في الأنهج والأزقّة في الوجوه. اصطفّ أمامي طابور طويل من المارّة وعابري السّبيل. مكثت أدقّق وأمعن في تشخيص وجوههم. قدّموا لي باقة زهور رماديّة فأخذتها شاكرا، بيد أنّها تحوّلت إلى لفائف تبغ. فكّرت أنّ السّحب أيضا رماديّة. نظرت إلى السّماء فألفيتها حمراء. استبعدت فرضيّة أنّها غاضبة، إلّا أنّني أدركت أنّ الوقت يبرّد لونها الحارّ وواصلت تفحّص الوجوه متناسيا لوهلة ما أنا فيه عساني أتلافى ذلك الفزع المطبق على كياني.
وجوه شاحبة لا ريب. فيها سحنة متشائمة. أسألها عن الوقت فتجيبني إحداها وتنفي أخرى. رجال ونساء وأطفال. احتشد الرّماديون أمامي. أعترف بأنّ وجوها ما توحي إليّ بأنّ الوقت تقلّص ولم يعد متاحا. كيف؟ انتهيت إلى أنّها لم تجد الوقت الكافي لتزيح عنها اللّون الرّمادي وخلصت إلى أنّ اللّون الرّماديّ حلّ محلّ الوقت. أمّا إن كان الوقت موجودا فعندئذ تتّخذ ساعات ضخمة مكان وجوههم.
– مرحبا سيّدة «السّادسة صباحا» كيف حالك؟
سألت إحداهنّ فلم تجبني. تلاشت أمامي فجأة واستحالت إلى هواء. ثم تقافزت مكانها فقاعات بيضاء. لم أجد إجابة شافية لدرجة نسيان ماهية السّؤال. الوقت. الوقت. ماذا يعني؟ أحسست بجوع شديد. جوع مؤلم. وبحثت عن مطعم قريب. تثاقلت خطواتي. فكّرت أنّ جسمي يشكو من خطب ما، كأنّ مسامير صدئة نخرت عظامي. من حسن حظّي أنّني وجدت محلّ وجبات سريعة. تناولت ساندويتشا وزجاجة كولا. فكّرت أنّ صاحب المحلّ لا يعدو كونه سمكة ضاحكة. ترسل فقاعات مدهشة من فمها عندما تتكلّم. لكنّه كان شخصا رماديّا.
توقّفت سيّارة إسعاف أمام المحلّ وتمّ اقتيادي داخلها. قيّدوني بساعات جلديّة كبيرة. توهّمت أنّني سائر إلى حتفي. وما زلنا نجوب شوارع المدينة حتّى وصلنا ساحة فسيحة. فيها أرانب زرقاء تنتفخ وتطير كمنطاد. جلست مقيّدا على كرسيّ وسط حشد غفير. رأيت شوارب تحلّق فوقنا بلا انقطاع. رماني بعض الرّماديّين بساعاتهم. أصابتني إحداها. كانت إصابة مؤلمة. وفقدت بعدها لوني. فكّرت أنّني رماديّ وهذا ما دفعني إلى الشّعور بالانتماء مؤقتا. غادر الجميع وتركوني وحيدا مقيّدا. لم أستطع تخليص نفسي من تلك السّاعات المؤلمة التي تعتصر معصمي يديّ بشدّة. وتلبّدت قواي بشيء من الخبل والضّعف. وعلى شاكلة ما تناهت إلى أسماعي كلمة نهاية. شاهدت أرانب زرقاء تنتفخ وتطير. كان أمرا مسلّيا. وصارت على علوّ واحد مع الشّوارب المرفرفة. بيد أنّني ما زلت أبحث عن حلّ لتخليصي من قيودي. استنشقت هواء ملأ صدري. شهيق هائل. شعرت بأنّني على وشك الانفجار. وخفّ وزني كثيرا. انتبهت إلى تفكّك جسدي. استحال جلدي إلى غبار وتلاشيت. ثمّ غادرت المدينة طائرا في الأفق الرّحب. شوارب عملاقة وأرانب منتفخة تحلّق حولي. كان مشهدا رائعا. مخيفا في آن واحد. وفكّرت أنّ السّاعة تشير إلى الخامسة صباحا.
– مهندس معماري حديث عهد بالتّخرّج الجامعيّ؟
سألني رئيس اللّجنة باستغراب واضح وهو يطالع الصّفحة الأولى من ملفّي.
– أجل. ذكرت ذلك بالتّفصيل في السّيرة الذاتية.
أجبته بشيء من الرّيبة. كان شخصا غامضا. تبدو عليه نزعة ثراء. مثل مستثمر إفرنجي إبّان الثّورة الصّناعية. رفقة سيّدتين تلوح من أعينهما علامات شغف بيروقراطي. عدا أن ملابسهم قديمة. عتيقة. انتظرت أسئلته باحتراز. على أن أنتقي الأجوبة بدقّة وعناية.
– كان يجدر بك الانتظار.
– انتظار ماذا؟
لم يجبني. سحب أمامه كتابا وانهمك في قراءته معدّلا ساعته بحرص شديد. طالعت عنوان الكتاب بتطفّل فألفيته رواية «البؤساء» لفكتور هوغو. كانت السّاعة الحائطيّة تشير إلى السّابعة والنّصف صباحا. تصدر صوتا كصوت أجراس الكنيسة. سحبت هاتفي لأعدّل الوقت. بيد أنّ رئيس اللّجنة انتفض قائلا:
ما هذا الشّيء؟ ماذا تفعل؟
– هذا؟ هاتف بكل بساطة.
غادروا مسرعين في لغو وتوجّس وتركوني وحيدا في المكتب. مكثت كذلك أنتظر حلول السّاعة الثامنة صباحا. موعد إجراء المقابلة. ونظرت إلى مرآة المكتب قبالتي. فطالعني وجه شيخ هرم بملابس شاب عشرينيّ.
تونس