مرثية إلى البحر الأبيض المتوسط
من حارات عشقت وتعشقت بأنفاسهم قرروا الرحيل، قرروا أن يحافظوا على ما تبقى من الروح في رحلة العذاب. غادروا عندما سكن الهواء بين قذيفتين، عندما صمت الغبار قليلاً فوق أرصفة المخيم، عندما لم يشفع لهم وطن سكنهم ستين عاماً ونيف، لملموا فلسطينهم وياسمين شامهم من بين الحارات والأزقة الهرمة ورحلوا، فلم يعد بينهم وبين هذا الوطن سوى آه و دمعة بحجم البحر تتوسط الذكرى والحلم …
حين امتلأت مسامات الليل بالأسود الكحلي وغطت قصص الحزن والموت سماء الشام تشظت الروح إلى كل مكان، وعندما أقسم الحزن أن لا يفارقهم، لملموا هديل حمائم الشام في حقائب لم تتسع لها البحار، نثروا روح الياسمين على شرفات البحر، تركوا وراءهم هديل الروح فوق المآذن وما حملوا إلا الأنين.
أقلعت المراكب في رحلة الموت هاربة من موت تعربش على جدران الميدان وتسلل إلى سوق الحميدية وانسل بين حجارة دمشق القديمة..
ساوموا البحر والجلاد على أرواحهم، لم يعد في القلب غير صرير البرد وأزيز الرصاص وأنين الأمهات.ركبوا البحر ليصلوا إلى شواطئ الأمل ومازال صوت الجلاد يلاحقهم، مازال نعيق جنازير دباباته تلاحقهم في حلمهم ، في موتهم، في هواء لم يعد كافياً ليتسع لآهاتهم. لم يلتفتوا إلى الوراء، غادروا الشام وكأنهم يغادرونها للأبد، فلم تكن صدفة أن تدون الطفلة سارا سلامة في صفحتها قبل أيام من غرقها هي وأخواتها في البحر المتوسط آخر كلماتها:’الوداع الوداع يا شام.’..
ماذا يعني أن تودع طفلة شامها وأن ترسم كلمات الوداع لدالية نمت كالصدفة على حافة بيتها،أن تغادر المخيم الذي ارتسم بقلبها كأجمل البلاد، كأريكة وأغنية وحلم.
آخ يا سارا… رميت الشوق بوجوهنا ورحلت كعطر في الهواء، ودعت عالماً لم يكن لك، لم يكن يوماً لنا، ودعت الذكريات والأشواق ورميتها هناك في الشام كزخرفة على الأبواب، كصدى يعاتب الذكرى….
تنساب الأسماء وتتكاثر مع كل موجة وعصفة ريح، فلا الدموع تكفي، ولا الآه تستنطق الكم الهائل من الحزن ، أطفالا كنسمة الصبح كانوا، مروا كزهر البنفسج كالطيف، كالأغنيات، هم الذكرى والدمع .جاؤوا كغيمة هاربة ثم عادوا إلى السماء.. كيف تجرأت يا بحر على كسر جناح الفَرَاش!! كيف أغرقت أحلامهم ولم ينكسر قلبك!! كيف طاوعت موجك وتقاويت على قلوب من سكر! كيف استقويت على الحمام! كيف يا بحر!
خذلهم العالم ، سرق الدموع والآهات وأنين الأمهات وفرشها على طاولة المفاوضات، صادر حزنهم، وتجرأ على سرقة ألمهم وموتهم كي يساوم على الكيماوي. لم يعد لي رجاء من عالم ليس لنا، ليس لي رجاء إلا عندك يا بحر:لا تأخذ زهور عمرنا، لا ترمي بقوارب الأمل إلى حضيض يأسك، احملهم على رفوف من حلم، لا تجعلهم صلبانا على وجهك، هم قلوبنا حين خففت وأسماؤنا حين خلقت. هم أليسا تترك بيروت والإسكندرية وكل المرافئ في رحلتها الأسطورية ، لكنها لم تقصد قرطاج هذه المرة بل إلى المجهول ترحل. هم عاشقة تنتظر حبيباً لن يعود بعد حين، هم كل الخراريف القديمة وحكايات الصغار لكن بلا نهايات سعيدة، هم كل التفاصيل التي تطوف بأوجاعهم وخوفهم لحظة انكسار الأمل وغرق الأحلام.
لماذا يا بحر.. لماذا! رميت الجديلة، رميت الشوق والعطش والخوف، لماذا رميت بكاء الصغار ودعاء الكبار!؟ تمهل وارأف بقلوبهم، فأرواحهم مثقلة وأحلامهم كثيرة، فقد تعبوا من كثرة الدعاء،صرخوا حين ارتموا بين الموجة ‘والسماء.. حين ارتموا بين الموت والرجاء..
دعوني ارمي كل ترانيم الأمل وأبكي على حلم قُتِلَ قبل أن يكتمل، على صباحات اغتيلت قبل أن تطلع، على النرجس الذي ذبل قبل أن يتفتح. يا موج أخذتهم إلى عمق الحلم وأغويتهم ثم أغرقتهم.حزينة صباحاتنا، حزينة مساءاتنا بدون أصواتهم، صرخاتهم، أحلامهم وآهاتهم…حزين هو المخيم ، حزينة حارات الشام بدون حلمهم، حزينة البحار دون عبث أيديهم على الشواطئ، حزينة هي الأزهار حين رمُيت على موجة من ذكرى ولم تحملها يد عاشقة أو أصابع طفل إلى معلمه… حزين هو الندى، حزينة هي الأحلام والأيام ..
حين أقلعت مراكبهم تعلقت أرجلهم بالريح والبحر وتمسكت أيديهم بالسحب والسماء.. قوتهم أمل وبعض من خوف، لكن البحر غدر بأشواقهم وأحلامهم…
بين موجة وأخرى علا الدعاء من حضن الخوف إلى شرفات السماء وعاد ليرتطم بالهواء والزبد وغضب الماء. رمى بهم الموج على حافة الموت وأمل الحياة. كانوا يدعون بأيد من يأس وأمل، دفعوا الموت بأظافرهم، حفروا أسماءهم وذكرياتهم على وجه الماء،ضربوا وجه البحر بأيديهم، ضاق الوقت على الأنفاس… فقدت الدقائق والساعات معانيها وضبط التوقيت بين رجفة قلب وجنون موجة…
هو البحر من سيقول كلمته الأخيرة حين لفظتهم منافيهم وشواطئهم، هي احتفالية الموت، طقوس الجبابرة والأضحيات. على قارعة الموت ينتظرون، يلهثون، يلونون البحر بصرخاتهم، بلهاثهم، بأحذيتهم، بأجساد استسلمت للريح على جثة الماء…
امتدت أيديهم إلى حبال الهواء عله يحمل عنهم الروح ويرفعها هناك إلى المركب، إلى المرفأ، إلى الحلم، إلى الحياة… يا ريح احملي صراخهم و اسمعي من بهم صمم، على مرمى موجة من الحلم رحلوا…
غادروا بابتساماتهم، بأحلامهم الصغيرة، بذكريات المدرسة، بألوان ألعابهم، بشخبراتهم على الدفاتر، لكنهم لم ينسوا أن يرسموا وشماً أسود على جبين الإنسانية .