مسافات إلكترونية
لم تلاحظ أن حلقها يئز من سعال حاد أصابها، لانشغالها طوال الوقت بالحديث عبر المواقع الإلكترونية، وجد ووعد جمعها بشاب عرفته خلال دردشات متبادلة، امتدت لسنة.
بين الفينة والأخرى تحدق في شاشة هاتفها النقال بإمعان وفضول، تترقب اتصاله بفارغ الصبر، تتغير ملامح وجهها ويضيء، كلما تذكرت جمله الجميلة التي يكتبها لها، لا تغيب محادثاته لحظة عن ذهنها، ساعات عمله الطويلة وظروفه الصعبة في بلاد الغربة تجعلانها تنتظر اتصاله ساعات وساعات.
ها هو ذا يرسل لها التحية، تتراقص كلماته أمام ناظريها، تكسوها الغبطة والسرور، ترمق بعينيها صورته وحروفه التي تتوالى بسرعة، تترقب وتتبادل بحماس واستعجال العبارات المرسلة، تكتب بأصابع مرتبكة لتضفي كلماتها وهج سرور تكاد العين تراه، في كل فاصل بين الجمل والعبارات ينهض ظل مخيلتها، يكبر بقوة ويصغر لحين عودته إلى السطور المكتوبة تالياً، فتتحرك جل مشاعرها.
يمضي الوقت متأخراً في الليل دون أن تلاحظ، تشرئب برأسها صوب الساعة المعلقة، تتمنى فرحاً أن تتمرد على نظم الزمن حتى تكون لتلك اللحظات سعة أكثر. تأخرت على موعد وظيفتها، إنها الثامنة صباحاً، لاحظت أنها لم تخلع جواربها الشفافة التي تكومت تحت كاحلها، نست ذلك ليلة أمس طوال الحديث معه، تسرح شعرها بأصابعها على عجل، تثبته بدبوس معدني مزركش، تثير ضجة خفيفة وهي تهبط الدرج ركضاً، لتلحق أي حافلة تمر في الشارع العام، بقاؤها مستيقظة ليلاً، جعل جفنيها تُطبقان نعاساً، أثناء تبادل الأحاديث مع صديقاتها في العمل. باتت تغفل التفاصيل اليومية التي ألفتها، كأن تسهو في طريق رجوعها من وظيفتها للبيت عن شجرة الياسمين، التي تتكئ جدران جيرانها الكلسية البيضاء، أو أن تغفل رائحة المطر التي تعطر الأفق، أو تناغي كعادتها جدائل ابنة جارتها السميكة وهي تلعب أمام فناء منزلها، أشياء لطيفة تداعب يومياتها. تغلق على نفسها باب حجرتها فور ولوجها البيت، تعود إلى عالمها الذي لم تنفصل عنه لحظة، لترسم حولها حالات الشغف، الصمت، الحب، الإصغاء، الترقب، تتفقد رسائل هاتفها، لم ترَ أي شيء منه، أو حتى أثراً له على المواقع الإلكترونية، ظلت ساعات وأياما على هذه الحالة دون جدوى، تتساءل في نفسها..
هل غير صفحته الإلكترونية؟
هل هو مشغول؟
هل هو مريض؟
تتقفى بعينين مبللتين أثر صفحته دون جدوى، لم تصدق ما حصل لها، لا تستطيع الاتصال به بعد اليوم ولا بأي شخص يمدها بخبر عنه، رجل يرحل كغيمة في ضباب وفتاة تتلاشى في الحقيقة والواقع.
باتت تخنقها تلك الجمل والفواصل والاقواس التي عاشتها لتسقط تحت أقدام الذاكرة، كتابات متبادلة رُسِمت بأحلام متوازية لم تجتمعا، يلازمها صدى كلامه الذي أصبح يتوسد الغموض ورحيل بلا عودة، تحدق في صوره التي احتفظت بها في هاتفها كما ينظر المرء إلى قاع مظلم ومنيع، لم تعِ ما حصل، تتعبها أسئلة حائرة لم يبق منها سوى الأماني التي لم تكتمل، تؤلمها تلك الأحايين الجميلة والدافئة التي هاجرت تحت سماء قارسة وسراب، ترى حيطان حجرتها يتيمة صماء تتوجس أطيافا فقدت صاحبها، وأفقا من دخان، وأحلاما تبدو كندبة، يُسمَع صرير الباب وهي تخرج عساها تغفل ما جرى، تاركة صوره وذكرياته في غرفتها بلا عناوين، أو تحظى بمحيط حقيقي وجديد. تجوب الشوارع بخطى بطيئة، تنفرج شفتاها ارتياحاً للمناظر الطبيعة التي تحيط بها، بعيدا عن المسافات الإلكترونية المبهمة التي كانت تسكنها، يداعب ناظريها ازدحام الناس وضجيجهم، أماكن نهضت من جديد في عتمة رأسها. تحاول أن تبتعد وتنسى ذلك العالم الركني الحصين مع طرف لم تجد حظها معه.
٭ سورية