معارك الكتابة
منذ فترة، كتب لي أحد القراء المهتمين، معلقا على ما سماه: سلبية كتاب هذه الأيام، وأنهم لا يستجيبون كثيرا للاستفزاز، ولا يردون على الهجوم الذي قد يطالهم ويطال أعمالهم الإبداعية، وحتى أولئك الذين قد يشكك في انتمائهم القومي لأوطانهم، تجد من يستفزهم في هذه الناحية، ويتجاهلون الرد، على عكس ما كان سائدا في السابق، حين كانت المعارك الأدبية تنشأ كثيرا بين الأدباء، وتثري الحياة الثقافية.
في الحقيقة هذا سؤال جيد، وحتى أنا شخصيا وخلال معرفتي بالحياة الثقافية، منذ أن طرقتها قارئا في بداية الصبا، ثم شاعرا وكاتبا بعد ذلك، تعرفت أيضا إلى الخصومات الأدبية والفنية، بمعنى أن مبدعا ما يتعرض لهجوم من أحد منافسيه أو مجايليه من المبدعين، ويقوم بالرد على الهجوم، ثم يقوم من أشعل ذلك الهجوم بالرد على الرد، وهكذا تكون ثمة معركة أدبية جيدة، قد تتعرض أثناء اشتعالها إلى كثير من القيم الأدبية، وترسخها، وتتعرض لأشياء قد تكون خافية على القارئ العادي، بالنسبة لإنتاج أطرافها، وطريقة كتابتهم، وطقوس الكتابة عندهم، وهذا ما قصده القارئ صاحب التساؤل، من جملته: إثراء الحياة الثقافية.
هذا بالطبع إن كانت المعركة نظيفة ولم تتلوث باتهامات جانبية، أو تمس شرفا أو أخلاقا كتابية، مثل أن يُتهم مبدع حقيقي بالسرقة من الآخرين بلا أي دليل، ويتهم آخر بالسطو على التراث غير المنتشر كثيرا، ولا يعرفه الناس، واستخراج نصوص منه، تستخدم في العملية الإبداعية، بلا أي إشارة لمصدرها. وعلى الرغم من أن بعض تلك الاتهامات قد يكون صحيحا بالفعل حين يأتي أحدهم بمقال لشخص مغمور، أو حتى معروف، عثر عليه في مكان ما، ويضع عليه توقيعه وينشره، ومثل أن يترجم آخر مقالا حيويا لكاتب غربي، وينشره باسمه، متوهما أن المسألة ستمر، وأن لا أحد ينتبه، ولكن لسوء الحظ في هذا الزمن بالذات، ومع وجود الإنترنت، وعينها الحادة، التي تصل لكل مخبوء في الدنيا، دائما ما ينكشف الأمر، ويسقط من سطا إبداعيا واجتماعيا، وكنت عثرت على شخص، يستخدم مقالات لي نشرت من قبل، وصدرت في كتاب، ويعيد نشرها باسمه في صحيفة عربية واسعة الانتشار، لكنني لم أقل شيئا.
في الماضي، أي قبل أكثر من عشرين عاما، كان نشاط المشاحنات الأدبية مقصورا على المقاهي التي يتجمع فيها المبدعون، سواء لعرض إنتاجهم أو الاستماع لإنتاج الغير، والإدلاء برأي فيه، ودائما ما توجد مقاه في أي مدينة كبرى، تعرف بأنها مقاه أدبية، ويمكن أن تكتسب هذه الصفة بصورة قوية، حين يجلس فيها بانتظام، كتاب من قامة نجيب محفوظ، وتوفيق الحكيم، وسهيل إدريس، وحنا مينا، ويأتي إليها الضيف الزائر مباشرة وعلى ثقة أنه سيلتقي بأحد ما، وغالبا هذا ما يحدث، وأحيانا لا يحدث ربما لسوء حظ أن تأتي الزيارة لتلك المقاهي، في يوم لا يكون فيه أحد المبدعين موجودا، وأذكر أنني زرت بيروت مرة، لنشر كتابي «مرايا ساحلية»، وكنت أعرف أن عددا من المقاهي في شارع الحمراء، تضم مبدعي تلك المدينة الجميلة المبدعة، وكنت متشوقا للقائهم، وذهبت بالفعل مرات عدة، ولم أعثر على أحد أعرفه، أو أتبين ملامحه، وغالبا ما كان هناك أشخاص من المبدعين لكنهم لم يكونوا بذلك البريق الذي يعثر عليه زائر، فورا ومن الوهلة الأولى.
بالنسبة للقاهرة، يكون الأمر أسهل، حيث لا يخلو مقهى «زهرة البستان» الواقع في وسط البلد، مثلا،، من أحد الذين أعرفهم أو أستطيع التعرف إليهم، في أي يوم من أيام الأسبوع، ذلك أن مقهى البستان بالتحديد، أصبح جزءا من الحركة الثقافية في مصر، ويبدو لي أن مجرد الجلوس على مقعد من مقاعده الشعبية، يلهم بشيء من الإبداع.
أعود لمسألة الهجوم ورد الهجوم، وهي مسائل موجودة وما تزال، ويمارسها الكثيرون لكن ببعض الخفوت، وربما لم تعد تمثل منحى ثقافيا مهما في هذه الأيام، خاصة أن نقد الأعمال الإبداعية وتناولها من قبل نقاد لهم وزن كبير، لم يعد مطروحا بشدة أيضا بسبب صعوبة الحصول على العمل الإبداعي نفسه، وسط التراكم الكتابي، كما قلت في مقالي السابق.
المبدع في أي زمان ومكان، وفي أي ثقافة من الثقافات، لا بد أن يواجه بالرضى من البعض، وبالسخط من البعض الآخر، وأحيانا تجد المبدع نفسه ساخطا على آخرين، بلا سبب سوى أنهم مبدعون أيضا، ولهم أسماء في الساحة الثقافية، ولأن الأدب في حد ذاته تجربة كئيبة، ولا ترتقي لتصبح وسيلة سلسة لكسب المال، تبقى تلك المنابر القليلة المتاحة، للظهور، وللحصول على بعض الكسب، محاطة بالجميع، كل يحاول أن يرتقيها، وتبدأ هنا تلك المعارك التي تتتحول بعد ذلك إلى خصومات مزمنة.
أتحدث أيضا عن ما يثار في الخصومات من نبش الإبداع القديم، وإحضاره كما هو، ليعرض في الحاضر بدون أي تغيير في شكله أو جوهره، فيما يسمى تناصا في اللغة المهذبة، وسرقة في اللغة الأخرى.
أنا أعتقد أن المسألة أقل كثيرا من أن تصنع هجوما وهجوما مضادا، أو تبحث عن تبرير هنا وهناك. كل من يأتي بشيء من التراث، مهما كان غير ملم بمسألة الاستفادة من ذلك، لا يمكن أن يضع مقاطع كاملة أو صفحات بلا تدخل منه، ذلك ببساطة أن ما قيل في التراث، لا يمكن أن يتماشى مع الحاضر بلا تعديل لهيئته ووضعه في الحاضر. حتى محاكاة اللغة التراثية تبدو صعبة، والقارئ يحس بمللها وبأنها كانت مقحمة بلا إبداع.
أعتقد أن الأمر مشروع، والكاتب الروائي أو الشاعر، غير مطالب بكتابة مصادره في روايته أو قصيدته حتى يصدق الناس، أنه استفاد من شيء، ولم يأخذه غصبا، وتأتي هنا إشكاية كتابة الشخصيات التاريخية الحقيقية التي لها صفحات مدونة في مصادر معينة، مثل شخصية ابن عربي، وصلاح الدين، وسعد زغلول وغيرهم، فالذي يستوحي تلك الشخصية ويكتبها روائيا لا بد أن يلم بمصادرها المعروفة، وبالتالي قد يلفت بعض الأنظار التي لن ترضى عن كتابته مهما أجاد.
كاتب سوداني