معركة في مملكة المناقير المعقوفة
سربٌ من كواسر النّسور حائمة كما لو كانت تستغرق حلما، حالمة كما لو كانت تستغرق زمناً من حَوَمان ذاهل.. خمسة كواسر في حدود التّقريب صافّات ..
لهنّ لعبة في التّحليق البعيد: دوران بهلوانيّ .. المشهد فوقيّ.. للمشهد من علٍ مرأى خالبٌ.. الارتفاع مساحة مطلقة، فضاء غير مُسيّج.. الأجنحة تمتدّ يميناً ويساراً، تتمادى في بقعة حريّة .. المشهد من تحت التّحليق انتشاري، أخضر، رصاصيّ، طليق، و بعيد.. أشجار تبسُقُ مطمئنّة بجمالها. بها نخوة العلوّ
الأقصى. في قوامها انتصارٌ صامد، لا ينتهي.على أغصانها حركاتٌ طفيفة من أثرِ نشوةٍ تحدثها مداعباتُ الرّيح الرّخاءِ.. للأحجار ألوانٌ يهيْمن عليها الرّصاصيّ الجانحُ إلى لونٍ آخر. يكون الرّصاصيّ من داخل الخضرة، من علِ الفرجة لامعًا. أي أجل، لامعاً.. ذلك اللّمعان الذي يدافع عن هويّة لونِه في صراع العناصر الجماليّ.. لا شكّ أنّ ثمّة صراعا جماليّا في تلك الآونة، تثبتُ خلاله الكائنات المتصارعة بريقَ حضورِها على شاكلةِ صراعٍ ما..
المشهد بعيد قريبٌ.. هو كذلك.. وما تزال النّسور تحوم، تعوم.. على مسافة من الفضاء العميق طائرٌ من فصيلة غريبة، يسرحُ وحيدا.. من المؤكّد أنّه في مهمّة فريدة: يقتنص نصيبَ لذّته من متعة التّحليق الحالم في مناطق الحريّة، في الرّحيب من مسافة تخيّل المتعة، و امتلاكها.. و ما يزال المشهد من تحته راسخاً في هويّته الجماليّة. ما تزال الأشجار و الأحجار والمرتفعات والسّهول والأودية، وما لا يُرى من بعيد من مرئيّات العالم الغابيّ الأسفل، تتصارعُ في حلبة الحضور الجماليّ.
فجأة التفّ قطيع الكواسر بالطّائر الوحيد السّابح في مساحة جمالٍ
فضائيّ حالم.. ها قد شكّلتْ حوله الكواسرُ حلقةً شبهَ دائريّة.. ثمّة أمرٌ دُبّر في هنيهة عاجلة.. هو بلا ريب، أمر غريزيّ ماكر.. وإلاّ لما سارع أحدُ النسور لينقرَ وضعيّة طيران الطّائر المستمتع بجمالِه.. كان طيرانُه ممارسة تطلُّ على العالم بهدوء.. كانت تبدو أنّها ترسمُ خطاطة بهجة محلقة.. تدهور الطيران لوهلة.. هاهي ذي حركة الجناحين الانتشارية تختلّ..
للحظات يفقد الطائر توازنه. لو لم يكن ذلك كذلك لما ترنّح.. راحَ يهوي داخل الفضاء إلى ارتفاع أقلّ.. وها هو يتحوّل بموجب فعل الاختلال والتهاوي شيئا فاقداً لإرادة التحكّم في الوجود المحلّق الحرّ.. ثم لا يفتأ ، حين ابتعد في سقوطه عن الكواسر، أن استعاد استواء وضعيّته الطائرة.. فانعتقت الأجنحة التي كانت قد انكمشت مرة أخرى.. إنّه الآن يخرج ، لا ريب، من ذعره… ويستدرك مساحة الطمأنينة ..إنه يستأنف الطيران ولكنه ينأى هذه المرة متقياً نقرات الكواسر الموهية.. لقد عاد إلى الحومان الحالم.. ها هو ذا يدرك حلمه الآمن في نشوة حالمة.. غير أن طغمة النسور الكاسرة بدت مصممة على تجديد ضربات
مناقيرها، على منبت أجنحة الطائر الحالم.. كان الطائر قد ظنّ أنه سلم من طرقات المناقير المعقوفة.. لذلك سرعان ما استسلم بيسر إلى فضاء الحرية.. لعله كان يعتقد أن الفضاء لبعده آمن، محمِيّ من فنون الشرور ، محَصّن ضدّ العدوان..
فاطمأنّ بطيرانه لفضائه مرّة أخرى.. تحلّقت الكواسر ثانية حول الكائن الحالم.. لم تكن تصدر أصواتاً.. كانت حركاتها
فقط توحي بالصّوت، كان يمكن ترجمة تلك الحركات إلى لغة نابية. متوحشة الأحرف، عنيفة الدلالة:
سنعكف عليك.. سنمزق حلمك.. لا يروقنا طيرانك الرومانسي المسالم.. عليك إذن أن تسقط.. وعلينا نحن أن نصنع سقوطك. ثم نتفرج عليك وأنت تختل ، تهوي. تصبح جثة باردة في الهواء، تغادر حلمك الطائر.. ثم نتلقفك وجبة في مملكتنا.. هذا الفضاء
مملكتنا، لنا. نحن عصبة القوة الضاربة في الجو…»
في المرة الثانية بدا العصفور أوسع توتراً..بدت حركات أجنحته صريعة الذعر.. راح يجتهد في أن ينتحي ركناً أبعد لطيرانه، ذلك هو تجل من تجليات الخوف، لكن الكواسر سرعان ما شكلت حلقة شر جديدة.. وازدحمت المناقير المعقوفة على توازن
التحليق تشاغبه بقسوة.. طفقت تضربه. ثم تمتنع هنيهة ..لعلها كانت بدورها تتوازن ، تستعيد اعتدالها جراء ما يحدث لها من اضطراب ناتج عن حركة الهجوم غير المؤطر بحلبة.. ثم لا تفتأ أن تعاود فعل الطرق بالمناقير، توالت الطرقات على
الأجنحة.. هل كانت النسور تعي أن فعل التوازن متأت من جناحين طليقين!؟ هل كانت تعي أن السقوط يأتي حتمياً تبعاً لأجنحة تضرب بضراوة!؟ ذلك ما لا يمكن الإجابة
عنه؟ حين تعدّدت طرقات المناقير المعقوفة، و قد أكبّت الكواسر على ذلك الكائن الأعزل الحالم، شوهدتْ حركة هُوِيّ شاقولي.. وشوهدتْ حلقة النسور كما لو أنّها تنحلّ وهي ترافق ذلك السقوط، دون أن ترعوي عن متابعة الطريدة الطائرة،
التي فقدت القدرة على استئناف تحليقها الجمالي الحالم..
ثم نأى المشهدُ انحداريّا فظيعا.
كاتب تونسي