مفاجأة الفنانة خيرات الزين من الإبداع بالريشة إلى الإبداع بالقلم
ثمانية وعشرون فضاءً لثمانية وعشرين حرفاً، هي أحرف اللغة العربية، تتحوَّل فيها الحروفُ إلى أهِلَّة، والأهلَّةُ إلى كائناتٍ طيريَّة ساحرة يحلِّقُ كلٌّ منها في سديمٍ لونيّ لا يملكُ المشاهدُ إزاءه إلا أن يحلِّق هو الآخر، بفرحٍ لا يخلو من دهشة إلى ذلك المكان الغامض الذي لا يوصلُهُ إليه إلا الفنَّ الصادق والجميل والأصيل.
ثمانية وعشرون رسالة، تشكيلية وأدبية، تبثُّها الفنانة اللبنانية المعروفة خيرات الزين من العين إلى العين، ومن الروح إلى الروح، في كتابها الجميل والأنيق، «منام الماء» الذي تشكّل مادته وشكله وطريقة إخراجه عملاً فنياً قائماً بذاته.
البراعة المُلْفتة في هذا العمل أن خيرات الزين تصيغ من شكل الهلال، المحدود والبسيط، أشكالاً واضحة وآسرة لجميع أحرف اللغة العربية، من دون أن يلاحظ المشاهد أيّ تعسُّف أو افتعال في هذه الصياغة الدقيقة والصعبة، فمن هلال واحد أحياناً أو من هلالين أو أكثر يتمّ تكوين الحرف، مع الاستعانة من حين لآخر بما يمكن تسميتُه هُليِّلات صغيرة لإكمال صورة هذا الحرف أو ذاك.
لكن فرادة الكتاب وجماله وقوة تأثيره ليست قائمة في رسوم الحروف بمقدار ما هي قائمة في النصوص الأدبية والشعرية والقصصية المرفقة بهذه الرسوم، والتي يحتلُّ بعضها أكثر من صفحتين. وهنا يبدو الحرف وكأنه هو الذي يؤلّف نصّه. فلنأخُذ مثلاً حرف «الهاء» الذي تبتدئ الفنانة خيرات الزين الكلام عنه بهذه العبارة:
«قال الهواء للصوت: لولاي لم تكن هنا ولا هناك». ينطوي هذا الكلام على حقيقة فيزيائية بسيطة. ولم تكن الكاتبة لتقول ما قالته لولا أن كلمة «هواء» و«هنا» و«هناك» تتضمَّن حرف الهاء، الذي جذب انتباهها إلى موضوع انتقال الصوت في الهواء. وتأكيداً لذلك، نأخذُ شاهداً آخر من حرف الهاء نفسه، حيث تقول الكاتبة في فقرة أخرى من النص:
«بيتٌ هرِمٌ هجره أهله فهانوا وهان… هبَّت عليه الريح وهطل المطر. فهوى إلى أعماق ذاكرته. أين همسات الهوى؟ وأين هديلُ الحمام؟ فما عادت شبابيكه تنام على هدهدات الشجر، ولا أبوابه تصغي إلى تنهيدة هزار..».
فمن الذي يتكلَّم هنا؟ الكاتبة أم الحرف الذي يتكرَّر ثماني عشرة مرَّة في ما لا يزيد عن سطرين!! والبراعة هنا هي في سياستها للحرف والإعتماد عليه في تكوين النصّ.
وهذا أسلوب الكاتبة في جميع نصوص الكتاب. فالحروف تتكرَّر بغزارة عجيبة، لكنَّ مضامين هذه النصوص تتبدّل من فقرة إلى فقرة ومن سطرٍ إلى سطر، وتتنوَّعُ بين السرد والتأمّل والقصَّة والشعر، مع تغيُّر دائم في أشكالها ومضامينها.
وأخيراً، فإن المفاجئ في كتاب «منام الماء» أن صاحبته فنانة تشكيلية معروفة. واقتحامها لعالم الكتابة والأدب، يمكن اعتباره مفاجئاً إن لم أقل مُدهشاً. والتكامل الفني بين الرسوم والكلمات يجمع بين براعة الريشة وبراعة القلم، اللذين يتألّف عن المزاوجة بينهما مولود جميل، سمَّته صاحبته: «منام الماء»!