من «أرَاكَاتَاكَا» المجهولة إلى «مَاكُوندُو» مسرح حضارة أمريكا اللاتينية فى الذّكرىَ الرابعة لرحيل ماركيز

من «أرَاكَاتَاكَا» المجهولة إلى «مَاكُوندُو» مسرح حضارة أمريكا اللاتينية.. فى الذّكرىَ الرابعة لرحيل ماركيز

من «أرَاكَاتَاكَا» المجهولة إلى «مَاكُوندُو» مسرح حضارة أمريكا اللاتينية.. فى الذّكرىَ الرابعة لرحيل ماركيز

مدريد « القدس العربي» من محمّد محمّد الخطّابي: أربع سنوات مرّت على رحيل الرّوائي الكولومبي ذائع الصّيت غابرييل غارسّيا مركيز، حيث حلت ذكراه في فى 17 من شهر أبريل/نيسان الفارط، فبعد احتفاله بعيد ميلاده السّابع والثمانين في نفس هذا التاريخ من عام 2014، غيّب الحِمام أحدَ أكبر الرّوائيين فى القرن العشرين. وُلد ماركيز فى «أراكاتاكا» فى 6 مارس/آذار 1927. كانت هذه القرية التي رأى فيها النور مغمورة بمنطقة الكاريبي الكولومبي، وقد تحوّلت فى روايته «مائة سنة من العزلة» إلى حاضرة مشهورة تحمل اسم «ماكوندو»، هذا المكان الذي تتعايش وتتآخىَ وتتعانق فيه الحقيقة والخيال والأسطورة. فتح «غابو» كما يسمّيه أصدقاؤه بهذه الرواية البابَ على مصراعيه لإبداعاته الأدبية التي جاءت فى قوالبَ جديدة وأساليبَ مبتكرة، حيث اعتُبِر من أكبر أقطاب كتّاب موجة ما يُعرف ب (الواقعية السّحرية) التي حققت شهرة واسعة منذ الستيّنيات من القرن المنصرم فى مختلف أنحاء المعمور للآداب الأمريكية اللاّتينية.
غابو صحافياً
كان آخر كتاب نُشر عن ماركيز يحمل عنوان «غابو..صحافيّاً»، وقبله بقليل كان قد صدر كتاب آخر تحت عنوان «غابو رسائل وذكريات» لصديقه الحميم بيلينيو أبوليّو ميندوسا (أنظر مقالي بالقدس العربي حول هذا الكتاب، عدد7356 في 12 فبراير/شباط 2013). ويقول الناقد الإسباني «خوَان كرُوث» عن الكتاب .. إعتبُر هذا الكتاب عند صدوره فى طبعة خاصة كنزاً ثميناً فى عالم الخلق والإبداع الصّحفي والأدبي على حدّ سواء، فبعد أن تمّ توزيعه بالمجّان، أصبح يباع اليوم بثمن باهظ، لذا فإنّ الصّحافيين الذين أمكنهم الحصول على النسخ القديمة منه قد أخفوها فى مكان مأمون لهذه الغاية، فالأمر يتعلق بصاحب رواية «مائة سنة من العزلة» التي بيع منها منذ صدورها عام 1967 إلى اليوم الملايين من النّسخ والتي تُرجمت إلى 37 لغة بما فيها لغة الضاد. تُعتبر «مائة عام من العزلة» من أشهر روايات ماركيز على الإطلاق، التي توّج بها رحلته الإبداعية بجائزة نوبل فى الآداب عام 1982، كُتبت هذه الرواية فى «المكسيك» ونُشرت فى «بونس أيرس»، ولم يكن ماركيز يتجاوز عمره آنذاك التاسعة والعشرين. كان المشرف عن دار النشر الأولى التي أُرْسِلتْ إليها هذه الرواية قد نصح ماركيز بالتخلّي عن الكتابة وهجرها وليبحث له عن عمل آخر، إلاّ أنّ أوّلَ نقد بنّاء فطن لأهمية الرواية غداة صدورها كان للناقد المكسيكي «إيمانويل كاربايو» عام 1967، فقد ذهب إلى القول منبهراً .. «إنّه ألفىَ نفسَه أمامَ واحدةٍ من أعظم الرّوايات فى القرن العشرين». غادر ماركيز قريته «أراكاتاكا «عام 1930، إلاّ أنّه ظلّ وفيّاً لها وللذكريات التي عاشها فيها فى صباه وفى شرخ شبابه، حيث حمل معه مختلف العادات والتقاليد وحتى طريقة إرتداء الأقمصة المُزركشة ذات الألوان الزاهية التي يوثر سكان منطقة الكاريبي على ارتدائها، لذا كان غابو يبدو غريباً عندما وصل إلى بوغوتا وكان سكان العاصمة الكولومبية ينظرون اليه باستغراب، وذات مرّة سقط ثلج غزير على المدينة العملاقة فصار يجري، ويقفز وهو يغني ويدندن غيرَ آبهٍ بالناس الذين تجمهروا حوله وهم ينظرون إليه فى شدوه إذ لم يكن قد رأى الثلج من قبل فى قريته الصغيرة المغمورة التي أصبح يعرفها الملايين من الناس فى مختلف أرجاء المعمور باسم «ماكوندو».
كلمات عربية متأصلة
تتعرّض الرواية للمغتربين العرب الأوائل الذين استقروا واستوطنوا قرية «أراكاتاكا» كما يتعرّض ماركيز للمهن التي كانوا يزاولونها، مثل التجارة كباعة متجوّلين، ويطلق عليهم ماركيز اسم «الأتراك»، وهو مصطلح غير دقيق، إذ كان الناس يطلقون عليهم هذا الإسم لأنّهم عند وصولهم إلى كولومبيا كانوا يحملون جوازات سفر مسلّمة لهم من قِبل الدولة العثمانية، فنجد فى الرّواية غير قليل من العادات والتقاليد العربية، فالشارع الذي يُشارإليه ب «شارع الأتراك» فى الرواية، سيصبح فضاء فسيحاً سرعان ما سيعرف تحوّلات كبرى سيكون لها تأثير بليغ على معظم سكان أراكاتاكا أو «ماكوندو» التي يقول عنها ماركيز إنّها «سرعان ما تحوّلت من ضيعة صغيرة إلى قرية نشيطة ذات دكاكين، وأوراش للصّناعات التقليدية، كما أصبحت طريقاً تجارياً منذ وصول العرب الأوائل إليها، الذين تعاطوا فى البداية التجارة والمقايضة، وأحدثوا تنظيماً إجتماعياً، وحياة ثقافية، حيث حملوا معهم «ألف ليلة وليلة» وحكاياتها العجيبة وخيالها المجنّح». ويرى بعض النقاد أنّ وصول المهاجرين إلي هذه القرية وإنتشار التجارة فيها قد يكون رمزاً واضحاً لوصول الإسبان إلى العالم الجديد. وبعد قراءة متأنيّة لمائة عام من العزلة، سنجد كلمات عربية كثيرة، منها مثالاً .. المسجد، السّوسن، القطن، العقرب، الضّيعة، الجلباب، الكافور، المخزن، الكحول، الزيت، القطران، المِسك، السّوط، الزّهر، الياسمين، الخزامىَ، السّاقية، البِركة، اللقّاط، الزّعفران، الزناتي نسبة إلى قبيلة زناته الأمازيغية المغربية، التي كان أهلها مشهورين بركوب الخيل حيث إستقرّت هذه الكلمة فى الإسبانية بمعنى الفارس وسواها الكثير من الكلمات الأخرى.
ماكوندو .. الفردوس المأمول
أهمّ ما يتبادر إلى ذهن قارئ «مائة عام من العزلة» هو عدم تتابع وتسلسل أحداثها التاريخية، إلاّ أنّ هذه الخاصيّة بدلاً من أن تصبح عنصراً سلبياً يُنقص من قيمة الرواية يجعلها تكتسب بعض المميّزات التي أهّلتهأ لتحتلّ مكانتها المعروفة، ذلك بواسطة سبل قد تبدو للوهلة الأولى غير منطقية، إذ أن الرواية بدلاً من أن تتّجه نحو المستقبل فإنها تسير فى إتجاه معاكس للتاريخ بهدف الغوْص فى الماضي واكتشافه، الذي أسهمت العزلة فى تنقيته وتجليته بعد أن كاد يكون مجهولاً، إلاّ أن هذا الماضي يظلّ جديداً بالنسبة للقارئ كصحيفة اليوم التي بين يديه، إذ فيه يعثر ماركيز على ما كان يبحث عنه منذ 1955 عندما أصدر قصّته «تساقط الأوراق»، فكأنه يلتقي مع رجال يعيشون فى الخيال، وهو نوع من البناء إنطلاقاً من الهدم والقهر والقسوة والمعاناة. رجال وعالم يقفان فى الرّصيف المقابل للمعتقدات والعادات والأعراف الإجتماعية، وأخيراً عالم المخدّرات أو المهلوسات التي قد تجعل الحياة ممكنة ومستمرّة فى مجتمع مّا، كما هو الحال فى «الكولونيل ليس لديه من يكاتبه»، وفى «الساعة النحسة»، فقد كان من المستحيل على الكاتب أن يجمع بين التاريخ والشخصيات. إلاّ أنه أمكنه أن يجد فى قرية «ماكوندو» (أراكاتاكا) رجالاً وطرائقَ عيش تربطهم بعوالم سابقة لوجودهم، فى الوقت الذي تتحوّل فيه هذه الشخصيات إلى أناس أنانييّن، لا تهمّهم سوى المصالح المادية الآنية. فقرية ماكوندو الفردوس الأرضي المأمول هي الفرصة المناسبة المتاحة للإنسان ليحقق أمانيه. فى هذا الفردوس لا يمكن لخصوم الرجال استغلال الفرص لإفساد السعادة التي ينعمون فيها، ذلك أنّ (ماكوندو) التي توازي فكرة أمريكا، حيث أمكن للوافدين عليها من الأوربييّن منذ 1492 تعزيز مواقعهم ومراكزهم فيها، حيث استقدموا معهم عنصر الاستمتاع بالحياة ، وبالمقابل زرْع بذورالشرّ والكراهية والجشع والتدمير، كلّ ذلك سيترك القرية شبيهة بخلاء متحجّر، وذلك بالضبط ما أوحى للرّوائي المكسيكي «كارلوس فوينتيس» عندما قرأ مائة عام من العزلة بأن يصفها بأنّها «كتاب أمريكا اللاتينية»، وهو نفس ما كان قد ذهب اليه كذلك الناقد «كاربايو» عندما قال عنها إنها بمثابة «كتاب مقدّس» فى وصاياه أو عهوده القديمة والجديدة الذي يحكي لنا فيها ماركيز تاريخَ شعب مختار فى قرية ماكوندو منذ البداية إلى حلول الكارثة، أي منذ أن وطئ هذه الأرض الغرباءُ الذين جعلوا من هذه الضّيعة قرية أسطورية حتى اللحظة التي يلتهم فيها النمل آخرَ وليدٍ من آخر رجال هذه السلالة.
ملكيادس ونوستراداموس
تبدو هذه الرواية للقارئ كأنها تلخّص تاريخ أمريكا اللاتينية منذ الإكتشاف إلى الوقت الرّاهن. مع إشارات إلى بعض عهودها الغابرة، فضلاً عن تكهّنات واستقراءات تلهب الخيال حول العصر الوسيط، وعصر النهضة أوعصر الأضواء وهنا يجعلنا مركيز نلتقي بإحدى الشخصيات الغريبة الأطوار، وهي «ملكيادس» العالم الكيماوي فى العصر الوسيط، ويعترف لنا أنه إستوحى هذه الشخصية من قارئ الطالع والمتنبّئ الفرنسي الشهير «ميشيل دي نوسترداموس» وهو كذلك رجل النهضة المدافع عن حقوق الإنسان فى القرن الثامن عشر، ربما لذلك نجده يموت مرّتين، ويُحتمل أن يُولد من جديد ليدلنا ويرشدنا كيف ستجد «ماكوندو» (أي أمريكا اللاتينية) منفذاً أو مهرباً من الموت الذي يحكم به عليها ظاهرياً مركيز فى نهاية الرّواية، إلاّ أنّ هذه النهاية تتصادف بشكل يثير للإنتباه مع البداية، فمائة سنة من العزلة تبتدئ بتقديم ماكوندو كأرض بور تدعو الرجال فى المنطقة لإستيطانها، وتنتهي كذلك كما بدأت بدعوة جديدة للمهاجرين الجدد الذين سوف ينزلون لأسباب عدّة من الجبال لاستيطان القرية ومنحها قوانين أكثر عدالة وأقلّ فساداً. كما أنّ «ملكيادس» يمكن له أن يموت، وأن يولد لأنه يقطن فى القارة الأمريكية، حتى وإن كانت تجرى فى شراينه الدماء الأجنبية، وهولا يميّز الحدود الفاصلة بين الحياة والموت فى هذه المنطقة/أمريكا التي لا يموت شئ فيها موتاً تامّاً أو نهائيّاً، كما أنّه لا يولد أيُّ شئٍ فيها بالتمام أوالكمال.
عالم ماركيز
لم يكن عمر ماركيز يتجاوز 19 سنة عندما كتب أوّلَ قصة له ونشرها بعد ثماني سنوات وهي «تساقط الأوراق»، صدرت فى بوغوتا عام 1955، ثم تلتها رواية «الكولونيل ليس لديه من يكاتبه»، التي أنهى كتابتها عندما انتقل للعمل كمراسل صحافي من باريس عام 1957. ثم نشر «ساعة النحس»، التي حصل بها على أوّل جائزة أدبية عام 1961، وفى عام 1967 ظهرت «مائة عام من العزلة»، التي تعدّ من أعظم الرّوايات التي عرفتها اللغة الإسبانية فى القرن الفارط. ويشير «كاربايو» أنّ ماركيز قدّم للرواية الإسبانوأمريكية ما قدّمه فوكنر للرّواية الأمريكية، ويغدو الصّمتُ فى بعض أعماله أصواتاً مدويّة مثلما هو الشّأن فى مئة عام من العزلة، التي هي سرد لتاريخ شعب بأكمله. حتى أن «كاربايو» بعد إعادته قراءة ما كان قد كتبه فى نقده الأوّل لهذه الرواية عند صدورها، كان عليه أن يتنبّه إلى أنّ التنبّؤات أو قراءة الغيب فى الأدب يمكن أن ينأى بنا عن الصّواب. فقد توقّع الناقد فى عرضه الأوّل البعيد زماناً ومكاناً أنّ ماركيز مثل رولفو وسواهما من الذين بعد كتابتهم لعملٍ جيّد قد يلوذون بالصّمت، ولكنّ شيئاً من هذا لم يحدث، فقد إستمرّ فى الكتابة إلى آخر أيام عمره. ويشير كاربايو أنّه مع ذلك ليس متيقنّاً إذا ما كان ماركيز قد كتب بالفعل أعمالاً جيّدة فى مستوى مائة عام من العزلة، وهو يرى أنّ أعماله التي جاءت بعدها تشكّل نوعاً من الحنين نحو عالم ضائع لا يمكن استرجاعه. فماركيز الذي جاء بعد عزلة استمرّت (مائة سنة) ظلّ بالفعل صاحب أسلوب قويّ ومميّز. وهناك روايتان فقط بعد مئة سنة من العزلة وهما «يوميّات موت معلن» و«الحبّ فى زمن الكوليرا» يمكن وصفهما بأنّهما عملان رائعان، وأقلّ منهما «الكولونيل ليس ليه من يكاتبه»، هذه الأعمال فى سيرة أيّ روائي آخرأقلّ موهبة من ماركيز تستحقّ الإهتمام والإعجاب، أمّا عند ماركيز فهي أعمال يمكن قراءتهما بمتعة، ولكن ليس بالمتعة نفسها التي يجدها القارئ عند قراءته ل «مائة عام من العزلة»، والتي قال عنها الشاعر التشيلي بابلو نيرودا .. إنها من أعظم الرّوايات التي كُتبت فى اللغة الإسبانية بعد «دون كيخوته» لسيرفانتيس.
من «أرَاكَاتَاكَا» المجهولة إلى «مَاكُوندُو» مسرح حضارة أمريكا اللاتينية: فى الذّكرىَ الرابعة لرحيل ماركيز

m2pack.biz