نحو تأهيل البيئة الاجتماعية ثقافيا ومهنيا
يقف العالم في الثامن عشر من شهر إبريل، محتفيا، ومحتفلا، بالتراث العالمي، كبادرة رمزية للتذكير بأهمية الجذور التقليدية والعادات والسلوكيات والتقاليد المجتمعية التي قامت عليها المجتمعات الإنسانية على اختلافها وتنوعها. وبالرغم من أن منظمة اليونسكو قد خصصت هذا اليوم تحديدا كوقفة سنوية للوقوف والتذكير بالتراث الإنساني، بشقيه المادي والمعنوي، إلا أن هذه الوقفة كل عام يجب أن ترتسم معالمها بأكثر من عقد الندوات أو المؤتمرات أو الإحتفالات، في محطة بذاتها، بل ينبغي، وكما هو حال الكثير من المؤسسات والمنظمات العالمية، أن تكون هذه مجرد وقفة تأمل، ومراجعة، وجرد حساب، للعام المنصرم، مع إعادة توجيه البوصلة للعام اللاحق. وانطلاقا من هذا الإطار، فمن المهم والضروري في هذه الوقفة تدبر وفهم معنى، أو دلالة ودلالات تفاعل التراث، المادي والمعنوي، مع البيئة المحيطة، واستخلاص دروس في إطار فلسفي للخروج من شرنقة الفهم النمطي أو اجترار بعض المفاهيم والمصطلحات دون تدبر معانيها بشكل عميق.
في بعض ورشات العمل السابقة، التي شهدتها، وشاركت بها، حول العمل على تطوير استراتيجية للتراث العمراني، تردد في فضاء الندوة الفكري مفهوم ‘المشاركة المجتمعية’، وقد استوقفني هذا المفهوم طويلا، كيلا نتجاوزه بفهم عام لا صلة له بالواقع أو بما يعنيه المصطلح أصلا. ومن اللافت أن هذا المفهوم الذي تشكله كلمتان، ينضوي تحت فهمه، بعمق، الكثير من الملاحظات التي ندرجها بإيجاز في هذا المساحة:
أولا في إطار فهم ‘المشاركة المجتمعية’، لا بد من ملاحظة إرتباط المفهوم ‘بالبنية التحتية’ بمفهومها الشامل (الثقافي والإجتماعي)، ارتباط تكامل وعلاقة أسية سببية. وهي، بالضرورة، رأسمال نجاح أي خطة أو برنامج أو استراتيجية. وإغفال تطوير البنى التحتية للمشاريع والتركيز دائما على الناتج المرئي قد لا يكون سياسة حصيفة. وبالرغم من أن الأولى لا تظهر دائما وتتطلب الجهد والوقت والموارد المالية وقد تتعرض للنقد لأن آثارها لا تظهر للواقع بشكل لحظي مباشر كما هو الحال في نواتج البرامج والمقترحات التي تقدمها هذه المحاور وغيرها، إلا أن البنية التحتية هي عماد ‘الإستدامة’ وضمانة أكيدة لكي تذهب البرامج والسياسات بعيدا جدا زمنيا وضمنيا في غاياتها وأهدافها وتحقق على المدى الطويل أكثر مما تبرزه النواتج المباشرة التي تهمل تطوير البنى التحتية الأساسية. و’البنى التحتية’ الثقافية والإجتماعية، يمكن أن تشمل تطوير برامج التعليم المهني والأكاديمي، والتركيز على إنتاج مهنيين وأيد عاملة محلية، وتطوير وحماية الإقتصادات والرساميل المحلية في مقابل الحاجة للإعتماد على الكفاءات والموارد والخبرات الإقليمية والعالمية.
ثانيا – من الضروري وبشكل عاجل البدء بتفكيك ودراسة عميقة للمصطلحات العامة وقراءتها بتمعن وفهمها فهما جزيئيا لا عاما هلاميا، لأن هذا الفهم سيؤدي بالضرورة لتطوير وربما تعديل سياسات ومنهجيات واستراتيجيات التعامل مع ما يتبلور ويتأسس انطلاقا منها. و لا بد من تفكيك’مفهوم المشاركة المجتمعية’ ومحاولة فهم ماذا نعني بالمشاركة المجتمعية؟ وتوضيح المفهوم يتضمن تفكيك وتحليل المستويات التي يقدمها الجواب، حيث يمكن أن تطرح الأجوبة على هذا التساؤل المباشر مشكلات أكثر من تقديم نتائج ونهايات وتوصيات كما درجت العادة. وقد يتحول هذا المفهوم إن أحسنا فهمه سعيا وراء تطبيق أفضل، من وسيلة إلى منهجية وآلية استنباط واستشراف على مستويات متراكبة ومتعددة. فماذا نقصد بالمشاركة المجتمعية؟
المشاركة المجتمعية بإطارها المنهجي تعني رؤية متبصرة من صاحب القرار لتطبيق علاقة لصيقة بين أي سياسة تطوير وبين المجتمع المحلي ضمن مستويات متعددة تبدأ من إطلاع العامة على اختلاف مستوياتهم العلمية والثقافية والإجتماعية على أي برنامج أو مشروع مستقبلي، وتتدرج لتشمل استطلاع الرأي والاستفتاء على برامج وخطط وسياسات مستقبلية نزوعا نحو توجيه برامج التخطيط والتصميم الإقليمي ورفدها بالمعلومات والمرجعيات، وانتهاء باشراك النخب وممثلي المجتمعات المحلية في استصدار القرارات وآخرها – وفي حالات نادرة سابقا – تتضمن الإشراك الفعلي في تنفيذ الخطط والبرامج والمخططات على ارض الواقع.
وانطلاقا من هذا الفهم الأولي لطبيعة ومستويات ‘المشاركة المجتمعية’ يمكن الإنتقال ومحاولة تفكيك العلاقات داخل المفهوم ذاته، وبخاصة ما يتعلق بالعلاقة وطبيعتها مع الجمهور والعامة وما يترتب على هذه العلاقة ومستوى التفاعل والثقافة والتعليم على اختلاف الفئات المجتمعية بما يشكل رافدا مهما كل على حدة إن أحسن تحليله وقراءته قراءة علمية مناسبة للبرنامج واستراتيجية التطوير. ومن هنا فعلى اختلاف مستويات المشاركة المجتمعية قد تتحول الوسيلة (التي كان يعتقد وَهما في السابق أنها وسيلة) قد تتحول إلى مشكلة تحتاج لابتكار وسائل وأساليب لحلها. كيف؟
قد يصطدم برنامج المشاركة المجتمعية ووسائل تطبيقها في المستوى الأول بحقيقة ‘تعاني منها بعض المجتمعات أو الفئات المجتمعية في العالم كله على حد سواء’ وهي ‘لامبالاة’ المجتمع المحلي بالبرامج وعدم رؤيتهم لجدوى البرنامج أساسا، أو عدم قدرتهم على الإندماج والتفاعل مع البرامج والرؤى والإستراتيجيات لوضع المشاريع النظرية قيد التنفيذ، بما يبلور فكرة ‘لا يعنيني ولا يخصني أو لا يفيدني’. وهذه العقبة قد تتبلور من خلال استطلاعات أو استبيانات يتم توزيعها وقد يتم إخفاء أو تضليل الإحصائيات من قبل المشاركين من العامة أو تقديم بيانات ‘لا مكترثة’ أو عدم تقديمها أساسا. ولذلك فإن المستوى الأول والأولي من المشاركة المجتمعية هو مستوى مهم جدا ويعكس مدى اندماج المجتمع المحلي مع المقترح والبرنامج والاستراتيجية أو مدى انعزالهم وعدم تقبلهم لفكرة البرنامج او المشروع او عدم رؤيتهم لعلاقتهم مع المشروع. من هذا المستوى وبعد تطوير مجموعة استطلاعات للرأي واستبيانات علمية يمكن تلمس بداية الخيط والطريق لمعرفة ‘خريطة طريق’ مهمة في مجال المشاركة الشعبية، ذلك المفهوم الفضفاض العام الذي بات متداولا ‘كحزمة’ واحدة دون محاولة تفكيكه ومعرفة علاقته بالواقع وكيفية تطوير السياسات والمستويات واجتراح حلول لإشراك العامة على مستوياتهم وخلفياتهم ومكانهم في المجتمع.
ومن المستويات المهمة الأخرى في مجال المشاركة المجتمعية ضرورة العمل على قراءة واقع المجتمع المحلي والتعامل مع الفئات بحسب مدى تقبلها واستجابتها للبرامج. لكن في كل مستويات التفاعل مع المجتمع المحلي لا بد من قراءة المدخلات والبيانات الإحصائية لا على الورق فقط ولكن بدلالات احداثيات الواقع لمعرفة ‘مدى انحرافها عن الواقع′ علميا بشكلها النظري الافتراضي وواقعيا بدلالاتها على الأرض.
وإحجام المجتمع المحلي عن المشاركة قد يكون العنوان الأبرز ليس محليا فقط ولكن له تجارب وسوابق عالمية وعربية ليس موضوع تعدادها هنا. من الشائع في أوروبا مثلا أن يتم استطلاع للرأي العام في مسائل تخص تطبيق أنظمة وتعليمات جديدة أو حتى بناء مشاريع في مناطق حضرية، ويتم في الغالب التواصل بشكل غير مباشر في البداية، أو من خلال وسائل التواصل عبر مواقع خاصة للتصويت وابداء الرأي عبر الشبكة العنكبوتية، أو بفتح وعرض وسائل اتصال وتواصل وتسجيل الآراء والمقترحات على مسودات المشاريع ومخططاتها الأولي، والتي توضع في المكتبات العامة. وقد يكون ‘التصويت السلبي’، أو عدم المشاركة أصلا، في بعض الأحيان مقبولا ولا يؤثر كثيرا على النتائج المترتبة على اتخاذ قرار بالمضي قدما في المشروع المقترح، حيث أن عدم مشاركة المجتمع المحلي في التصويت أساسا قد تعني أمرين: إما المبالاة أو الموافقة الضمنية على ما تراه اللجنة الخاصة او الحكومية، وهذا لن يؤثر سلبا على تنفيذ المشروع. لكن اللامبالاه في حالة العمل على تطبيق برامج وسياسات تعنى بتطوير التراث عموما، والتراث العمراني خصوصا، لا تكون مقبولة إذ أن إحجام المجتمع عن المشاركة له دلالات سلبية وخطيرة نحو تنفيذ المشروع ابتداء وقبوله لاحقا والتعامل معه كواقع حي على المستوى البعيد.
وانطلاقا من هذا المستوى يمكن العمل على تفعيل مستوى العلاقة من النخبة وممثلي المجتمع المحلي في استبيانات ولقاءات دورية وملتقيات اكاديمية ومهنية وشعبية لزيادة العلاقة مع الجمهور من ناحية، وزيادة العلاقة بين الأفكار النظرية للبرنامج وبين النصيحة والمشورة العملية التي يقدمها وجهاء المجتمع المحلي وممثلوه.
ثالثا ومن الوسائل المهمة التي يمكن تفعيلها لاستمزاج، وتطويع، الرأي العام هو وسائل الإعلام ودورها المحوري والذي لا يجب أن يتقصر على التعريف بالأنشطة والفعاليات والترويج لها، ولكن هناك جانب آخر مهم ينبغي التعامل معه كجزء لا يتجزأ من خطة تنفيذ وتقديم التراث الثقافي والتراث العمراني. وهذا التقديم يهدف لجعل أنماط وقصص وحكايات وعناصر التراث جزءا من التكوين الثقافي المجتمعي ويمكن أن يتم على مستويات عدة محلية وإقليمية وعربية وعالمية: من خلال جعل مواقع التراث العمراني ‘مزارات سياحية’ لها حضور إعلامي خارجي، أو ‘استقدام’ الثقافة والإعلام والفن الخارجي للعمل في مواقع التراث العمراني وتطوير برامج توثيقية أو برامج ‘تليفزيونية’ محلية تعتمد التراث العمراني وبعض مواقع القرى التراثية كمحطات وخلفيات تبث بشكل لا شعوري في المشاهد المعرفة الثقافية والتوعية المطلوبة بالمواقع التراثية بما يجعلها جزءا أصيلا من ثقافة الأجيال ويكون لها دور في نشر التاريخ بطريق الإعلام المسموع والمرئي.
رابعا ومن أجل تطوير ‘البنية التحتية’ الثقافية والإجتماعية المناسبة، لا بد من العمل على تطوير وتنمية المواهب الإبداعية للمواطنين منذ مراحل التعليم المدرسي الأولى وحتى المستويات الجامعية بهدف التأسيس لأجيال تستلهم التراث وتعمل على قراءة التراث البصري وتحويله إلى تراث أدبي وفني. كما يجب العمل على دعم برامج ومناهج التعليم لهذا الغايات وتطويرها وتطويعها. ولا بد من تطوير مناهج التعليم المدرسية لكي تكون مؤهلة وعاملا مساعدا في تطوير قدرات ومهارات ومواهب الطلبة منذ مراحل اساسية وحتى ما بعد الجامعية المتخصصة من أجل العمل على إبراز العلاقة المهمة واللصيقة بين الإبداع الفني والأدبي. وفي مراحل الجامعة وما بعدها، لا بد من تخريج مختصين في الحفاظ وفي تاريخ الفن والتراث وخبراء يجمعون بين العمارة وتاريخها وبين الإهتمام المتخصص والدقيق ‘كحفاظيين’، والعمل على تطوير نقابات مهنية معنية بهذا التخصصات المطلوبة المستحدثة وغير المسبوقة التي بلا شك ستشكل دعما أكاديميا ومهنيا أساسيا لتطوير برامج وخطط إحياء التراث وتنشيط السياحة الثقافية.
خامسا- وفي إطار تقديم التراث للعامة والمجتمع، لا بد من العمل بشكل متكامل بين انتاج التراث البصري والتراث المعنوي، ومراعاة أهمية التراث المعنوي في تكريس مفاهيم وقيم وإحياء مهارات وخبرات وتناقلها بما يرفد بشكل كبير ومهم محاولات إحياء التراث المادي والبصري. وفي هذا الإطار يكون للتراث المعنوي والثقافي أهمية لا حصر لها. وأمثلة ذلك المناظرات الشعرية والزجل والحكايات الشعبية التي يتم تقديمها في بوتقة التراث البصري كالمضافات والدواوين التي سبقت الإشارة لأهمية تطويرها وإنتاجها.
إن مفهوم ‘المشاركة المجتمعية’ الذي يتردد في الكثير من توصيات الندوات هو مفهوم شامل متكامل، يعني خطة عمل ويتجاوز حالة ‘تماس′ إملائية بين صانع القرار وبين الجمهور أو المجتمع ‘خاوي الذهن فيما يخص أهمية ومحورية التراث’ ومغزى وجوده في البيئة الفيزيائية والإجتماعية. ولتفعيل هذا المفهوم لا بد من العمل على رفع وتأهيل البنية الإجتماعية ثقافيا ومهنيا كي يكون للمشاركة المجتمعية معنى وغاية.
*مستشار في الحفاظ وتطوير التراث العمراني والتنمية السياحية