نصف قرن على تحفة «تاتي» أفضل كوميديا في تاريخ السينما

نصف قرن على تحفة «تاتي» أفضل كوميديا في تاريخ السينما

نصف قرن على تحفة «تاتي» أفضل كوميديا في تاريخ السينما

باريس «القدس العربي» من سليم البيك: هو ثالث أفلام شخصية «مسيو أولو» التي ابتكرها المخرج الفرنسي جاك تاتي في فيلمه «إجازة مسيو أولو» (1953) ثم استمرّ بها في «خالي» (1958) و«بلايتايم» (1967) و«ترافيك» (1971)، في زيٍّ وسلوك يذكّرنا بشخصية تشارلي تشابلن، ذا ترامب، (معطف طويل ومظلة وقبعة وغليون)، وأسلوب سينمائي ومواضيع ورموز خاصّة بتاتي توجّه فيها تحديداً لنقد المجتمع الحديث والآلي، الذي اجتاح فرنسا والعالم، مع نهاية الحرب العالمية الثانية.
الفيلم كوميدي ساخر، ناقد مقلّ بأحاديثه، بل يبدو العديد منها بلا معنى، أي تبدو كملافظ تفوقها لغة الجسد أهميّةً في إيصال معناها، إضافة إلى التأثيرات الصوتية الساخرة والإلكترونية الأعلى من اللازم، الكاريكاتيرية. والفيلم، كما في باقي أفلامه، من بطولة تاتي الذي شارك في كتابتها.
في هذا العام يكون قد مرّ على الفيلم نصف قرن، خمسون عاماً على نقد لاذع لمجتمع من المعدن والبلاستيك والزجاج و«الباطون». لن نشعر اليوم، بعد كل هذه السنين، بغرابة أفكاره التنبؤيّة، التي يصير فيها الإنسان آلة، تتبع آلات أخرى، منظماً بشكل متطرّف، مبرمَجاً، موظّفاً، مثله كمثل السيارة التي يركبها والمكتب الذي يعمل فيه.
الكوميديا في الفيلم تعتمد على تفاعل مسيو أولو، الغريب عن كل هذه الحداثة، مع ما ومن حوله، فأتت الكوميديا من خلال أدائه، ردود فعله، تناقض شخصيته مع كل ما ومن يرتطم به، باستثناء سيّدة بدت مختلفة عن الباقي بأمر بسيط هو لون فستانها الأخضر، واهتمامها بالزّهور الملونة وبسيدة تبيع الزّهور في كشك على الرصيف، فكان الفستان والزهور الشيء الوحيد الملوّن في الفيلم الممتلئ بألوان معدنية: الرمادي بدرجاته إضافة إلى الأسود وألوان أخرى باهتة، بدءاً من السيارات إلى المباني إلى الملابس إلى المكاتب، وغيرها من ديكورات الفيلم التي أنشأها تاتي خصيصاً له، أي أن كل ما نشاهده داخل إطار الكاميرا هو مركّب من أجل الفيلم، حتى أضواء الشوارع والمباني العالية التي ظهرت في خلفيات الصّور.
في الفيلم إشارات مبكّرة جداً إلى ما صار يُعرف لاحقاً بالعولمة، أي عولمة الصناعة/المنتجات المتماثلة لجهة صانعة/منتجة واحدة، وتعميمها على العالم، كأن نرى ملصقات إعلانية لتلك المباني ذاتها، كصور متطابقة، مع أسماء مدن تتواجد فيها، عواصم عالمية تماثلت فيها المباني الضخمة الأشبه بمكعبات «اللوغو» وتحلّ محلّ المعالم التاريخية والأثرية لكل مدينة، فنرى هذه المباني الضخمة في أحياء تُعرف بشوارعها الصغيرة كحيّ مونمارت في باريس، أو قريبة من المركز التاريخي للمدينة، حيث تطل على برج إيفيل، وتجانب جسر ألكساندر الثالث. إنّما، المكان كلّه هناك، عبارة عن شوارع عريضة نظيفة وسيارات عديدة ومبان متكاتفة، وكلّه بالرّمادي.
ليست في الفيلم حكاية، فموضوعه وأسلوبه لا يحتملان. الفيلم عبارة عن يوم يمضيه مسيو أولو في باريس، قادماً من خارجها، حيث يبدأ يومه في شركة له موعد مع أحد مديريها، هناك يبدأ باستكشاف غرائبية العالم الحديث، من المدخل إلى الكراسي إلى الزجاج إلى المكاتب الأشبه بالأحواض الزجاجية المغلقة على الموظفين فيها، إلى كل ما تطاله يده أو عيناه. والفيلم مليء بهذه «الموجودات» التي جعلها تاتي مادة للسخرية وتوسّلها لنقد عالم حديث يسطو على المدينة، وهو موضوع باقي أفلام سلسلة مسيو أولو.
لا تفوت تاتي الإشارة بوضوح إلى المجتمع الطبقي، وهو اللازم تماماً للمجتمع الصناعي، حيث تتوسّع الهوّة بين أفراد المجتمع، وذلك، في الفيلم، من خلال المطعمَين المتجاورين، واحد للفقراء كان فيه مسيو أولو، وجده فيه أحد العاملين في المطعم المجاور، الفخم والتابع لفندق في المدينة، فسلّم عليه وأخبره بأن يذهب معه إلى المطعم الفخم، فعل مسيو أولو وبدأت تظهر تناقضاته مع المطعم وروّاده وهم فرنسيون بيض ومسنّون وأغنياء، إضافة إلى أمريكي لا يكف عن محاولة السيطرة على كل ما حوله، من خلال النقود والرشوة تحديداً.
التصوير موضوعي، أي أنها وجهة نظر خارجيّة، قد تكون للمُشاهد مثلاً، لمراقب من خارج هذا العالم، تظهرها أماكن تموضع الكاميرا التي غالباً ما تكون بعيدة، تصوّر من زوايا غير مريحة لها، كأنّ أحداً يراقب ما يحصل من خلال مدّ رأسه أو الانزياح قليلاً ليرى ما يمكن رؤيته. لعلّ المخرج أراد بذلك إشراك المُشاهد باتخاذ موقف مما يراه من خلال جعله مراقباً، أو مقحَماً في ما يحصل.
صُنّف الفيلم (Playtime) بمرتبة 43 في لائحة مجلة «سايت أند ساوند» لأعظم 100 فيلم في التاريخ، وهي لائحة يندر فيها وجود الفيلم الكوميدي، قد يكون «بلايتايم» العبثي والساخر من الحداثة، من أبرزها.

m2pack.biz