نص تحت الشرشف
تعالى الصياح «ولا .. ولا .. ولا .. ولا.». من أعلى طابق مطل على بهو الإدارة السفلي. لم يلبث أن أخرجت الطوابق عُمَّارها من المُستخدَمين الشغالين المأجورين المحجورين. كلٌّ هب من مكتبه ينظر مصدر صراخٍ كسر صمتَ المقابر الجماعية المجهولة العتيقة المخيمِ دائما وأبدا في بناية تخنق أبناءها كالجاثوم.
انفغرت الأفواه وجفت الحناجر من كابوس يقظة هائل ماثل. الكل يحملق أعلاه. من جميع جسد الرجل بقيت أصابعه وحدها متشبثة بدرابزين الطابق الرابع تكابد ثقله المتدلي ريثما يستجمع ساكنُه شجاعةَ لحظة الصفر، ريثما يكمل العد التنازلي ليرخي الأصابع ويهوي أسفله، مارا بسرعة على الطوابق الأربعة القاسية الجافية. هل يُحدث مرورُه هبة ريح يكون لها أثر جناح فراشة في تشيلي على إعصار في سيبيريا. الفراشة وزنها غير قاتل لها. لكن بلاط البهو الرخامي أسفلَه مِن الصلادة والثبات بحيث لا يظلم من قرر الارتطام، والجاذبية ليس بينها وبين أحد نَسَب، وكتلة الجسد نفسُها أولُ مَن لا يرحم.
هرع إليه ثلاثةٌ يصرخون، «ولا .. ولا .. ولا .. ولا.». يكررون أداة ناهية لكن غير نافية لرغبة في الموت. لا أيُّ موت. الموت قربانا على مذبح البناية القاسية مثل معبد وثني خلا من كل عبادة إلا من جباية نفقات كالصدقات؛ الموت على ملأ من عُمَّاره العاقين الأموات أحياءً في مقبرة جماعية عتيقة بالية. كلهم عاقون سواءٌ من ارتكب واقترف واجترح أو من قرر الخوفَ والصمتَ والإهمال وتعودَ أن يقول لملابسه الداخلية في غرفته في خويصة نفسه تحت شرشف فراشه «أنا وبعدي الطوفان» واستوثق منها أن لا تبلغ عنه أحدا ليبقى مرفوع الرأس.
نساء يبكين في الأروقة. ورجال عليهم علامة اشمئزاز من حال رجل مثلهم لم يفضح سوى مقدار الاستكانة فيهم. ما منهم إلا وفتح أمام عينيه سجل الإهانات. الرجل بارومتر فضاح لعين. ومنهم من هب لإنقاذه. لإنقاذ نفسه بهِ منهُ فيه. لإنقاذ أنفسهم من الندامة وعقدة الذنب مضروبة في ذِلة بتقسيط. جاهدت الأيدي حتى انتشلته قبل نهاية العد العكسي. لم يقلع إلى الأسفل. لم يمت. لم يسقط. لم تتهشم جمجمته. لم يتقصَّف هيكله. لم تشهد البناية مأساة فرانس تيليكوم. بقي الزميل على قيد الحياة، على صفد الحياة، على أغلالها. تنفس نزلاء البناية التعساءُ الصُّعَداءَ والتحقوا بمكاتبهم. وعاشوا سعداء..
قاص مغربي