نوستالجيا المكان وغوايات صدفة اللقاء
بعد سلسلة من الإصدارات في مجال القصة القصيرة والدراسات السينمائية، يفاجيء الناقد والمبدع محمد اشويكة جمهور قرائه بنص رحلي باذخ هو: (أَنْفَاسُ الجُغْرَافْيَا)، اعتبره الناقد المغربي انعطافة مهمة في سرود السفر بالمغرب المعاصر، وهذا ما أورد في تقديمه بشغف غامر:
(أَنْفَاسُ الجُغْرَافْيَا)، هي نوستالجيا الأعالي في جنوب الروح وجنونها بالمكان في دوخة لها رهبة ونشوة تصل حدّ الانخطاف. فحين يكون الرحالة في مستوى لحظة اللقاء بمكانه إذ لكل مكانه يغمرك بشلال فيوضات مشاعره الشاعرية، حتى لتضيق بك كل الأمكنة مهما كانت شساعتها، وتتساوى في عينيك جغرافيتها التي تبتذلها الألفة وتضيق بها العبارة ويتبلّد معناها في تلبُّده. غير أن العين المنذهلة المترعة بالحنين والمغامِرة في سيميائيات الأمكنة والناس تشعر بما لا يشعر به العابر في مكان عابر، فتفتح في شرفات النص النصوص مجْلى للبصير والمتبصر، الحليم والحالم. تلك عين محمد اشويكة التي تعبق من رحلته رحلاته أنفاس جغرافيات داخلية: (تحناوت، زاكورة، الداخلة، مراكش، أولاد حمزة) وخارجية: (وهران، طرابلس، مصر…)، جغرافيات المكان بسهوله وجباله وهضابه وبحره ونهره وواديه وصحرائه ، وجغرافية الميكرو مكان بشوارعه ودروبه وسينِماته مقدَّسه ومدنّسه.
روح المكان تسري في بواطنه وتتسلقه عارية، تعبُره حين يعبرها دون سابق تغْريض (Thematization)2 أو تعريض (Exposure)3 مبيّت. إنه لا يصدر عن حُكم قبْلي ينساق وراء نزق الجاهز، بل يباغت المكان حين يباغته المكان، يراه ويتمرأى فيه، يرتاده ويراوده، يحسُّه وهو يتحسَّسه بمجسّات وجدان يغمره وجْد الحنين إلى المندرس والذكريات المبحرة في غياهب زمن ولّى إلى الأبد.
لا شيء يقف أمام غمرة المعنى وهو ينداح سلِسا سلسبيلا للتو من شعرية اللحظة الطازجة التي لا يستطيع الإمساك بها إلا من سحرته بلاغة الحرف في المكان، قبل أن تنحرف سيميائيته بقدرة خطاطيف الظلام القادرة على التخريب والمسخ وانتهاك عذرية الجمال بجمالية القبح المتسَري بقيم معوْلمة علَّبها التنميط.
في أمكنة محمد اشويكة بأزمنتها لأن المكان يحمل زمانه تزحف إلى فكرك الأسئلة الدافئة قبل أن تحبو أمامك الأجوبة المُسوخ الباردة حدَّ الجنون. هنا يغدو المكان مهمازا لأشواق مُكبحة تقاوم الانهيار والانحدار إلى جُبّ ‘الدوغما’ ووحشة العزلة ووحشيتها على العقول والحقول، وسقْطات الحركات، وتصيُّد الغرائبي في غربة القاطن واغترابه حين يضيق المكان على رحابته بأوهام الصعود نحو الهاوية في تناغم إيكولوجي مع الخراب المعماري، وجَلَبة الحركة في الثبات. هكذا تتحول منحة المكان وحنانه إلى محنة روح نائحة، وهي تصّاعد في مدارج المادة نكوصا إلى مدارك الهباء.
تلك اندماغات حتى لا أقول انطباعات محمد اشويكة الرحالة عن أمكنة يبرحها وتبقى تباريحها معه دوما وإلى الأبد. فمن يدخل المكان، لا يخرج المكان من روحه؛ لأن الرِّجْل التي تَطأُ، تلازمها وطأة ما وطأت.
‘ عضو المكتب التنفيذي للمركز العربي للأدب الجغرافي ارتياد الآفاق، ومدير المركز المغربي للدراسات والأبحاث في أدب الرحلة.
إذا كان التغريض هو تجربة وإحساس بموضوع، وجعله بؤرة اهتمام خطاب أو موضوعه، فإن محمد اشويكة لا يصدر عن تغريض مسبق.
بالمعنى الفوتوغرافي للكلمة، ويتعلق الأمر بإسقاط كمية من الضوء على وسيط فوتوغرافي لاستضواء جزء منه عند التعريض الزائد، أو تعتيم تفاصيل الموضوع الصورة على وسيط عند التعريض المنخفض.