هذا المعنى الجديد لكلمة «رأي»
لم أملّ أبدا من مشاهدة ذلك الفيلم القصير، الذي أطالت صحيفة «نيويورك تايمز» إبقاءه على موقعها. هو ليس إلا مشاهد متفرّقة من مأوى لكبار السن يبدون فيه جالسين على الدوام، في أمكنة الجلوس المختلفة، ومرّة واحدة متحلّقين حول طاولة الطعام. مخرجا الفيلم اختارا امرأة من بين النزلاء لتكون بمثابة ما اتُفق على تسميته، في الفنون الأدائية والحكائية، بطلة العرض. بها يبدأ الفيلم، بصورها شابّة بثوب الزفاف، الذي اختارته من بين موديلات كثيرة عرضت أمامها. ثم، تاليا، نشاهد جواز سفرها القديم، الذي يشير إلى كونها من تشيلي. لكنها، بحسب ما تردف، من إقليم الباسك، من مدينة رنتاريا، و«لست من هنا»، كما ستظل تقول في ما سيتلو من مشاهد، ومما سيكون عنوان الفيلم.
أي أنها ليست من إسبانيا، حيث هي الآن، في ذاك المأوى أو المنتجع، بل حيث تعيش، أو عاشت ربما عقودا عديدة من حياتها. الباسك، وتلك المدينة رنتاريا، باقيان في غور عميق من شعورها بالانتماء إلى مكان. وهي، رافعة راية انتسابها البدئي هذا، تظل تحارب به أولئك العجائز فاقدي الحيلة المقيمين معها في المأوى. هي جاهزة على الدوام لتذكيرهم بأنها ليست من هنا. وإذ يجيبها أحدهم بأن الباسك إقليم تابع لإسبانيا، تصرخ في وجهه، بل ويحتد صراخها حين يقول سامعها هذا بأن الباسكيين إرهابيون «يلقون بالقنبلة ويهربون إلى باريس» (وهذه معرفة بمجريات العالم تفوق ما تحفظه عقول هؤلاء وتتعدى كثيرا ما يتداولون به في ما تبقى من حوارات الفيلم). وفي أحيان تروح تخاطبهم عامدة بلغتها الباسك، رغم إدراكها أنهم لن يفهموا شيئا من هذه اللغة.
ذلك أيضا من أجل أن تقول إنها ليست من إسبانيا. لكنها أيضا ليست من هذا المكان (المأوى) الذي ربما دُفعت عنوة إلى الإقامة فيه. في أحد الحوارات، البطيئة القليلة الكلام، تحرص على سؤال مَن هم حولها إن كانت إقامتهم هنا دائمة أم مؤقتة، لتقول بعد ذلك إنها، في ما خصّها، جاءت لزيارة لن تطول. وهذا ما تعتقده على أي حال إذ، في مكالمة مع ابنتها على الهاتف، نعرف أنها مقيمة هنا منذ ستة أشهر أو ثمانية أشهر، وليس من صبيحة هذا النهار، كما كانت تظن.
ولأنها ليست من هنا، أو لا تحب أن تكون من هنا، نراها متذمّرة على الدوام. مع الجميع تتكلم بلهجة آمرة أو مؤنّبة، وذلك من قبيل التنصّل والانفراد. كما من قبيل التميّز أيضا، وهذا ما يتيحه اختلاف هيئتها ولون بشرتها وظهورها آتية من طبقة اجتماعية هي أكثر رفعة من حيث أتوا جميعهم. وهذا ربما ما دعا ذلك الرجل التسعيني الجالس إلى جانبها على الكنبة إلى التحرّش بها، لكن على طريقة ما يمكن أن يفعل مَن أصبحوا في ذلك القدر المتلاشي من العمر والرغبة: راح يقرّب عصاه منها، ببطء وبتردّد يبديه كأنه سيتوقف عن محاولته تلك في اللحظة التالية، ثم، بعد انقضاء وقت على ذلك، تصل عصاه إلى طرف ثوبها. وإذ تصرخ به، مهدّدة بضربه إن عاد إلى فعلته، يمدّ يده إليها طالبا منها أن تمدّ يدها هي أيضا، ثم يقول لها، محاولا إقناعها، بأنهما سيبدآن هكذا، بتلامس الأيدي، ثم ينتقلان إلى ما يلي ذلك.
فقط في علاقتها بهم، هم الآخرون، تبدو مسيطرة على ما تقوله، أما في تواصلها مع نفسها فتبدو، رغم حيوية جسمها الفائضة، كما لو أنها في شبه غيبوبة. في حوارها مع امرأة مجاورة لها على المقعد جعلت تلح كأنها تجري استجوابا مع شخص لا يعرف أين هو وأين سيصير. لكنها من جهتها لم تلبث أن فقدت إحساسها بالاتجاه فلم تعرف من أي الأبواب المتقابلة عليها أن تدخل. حيّرها الوقوف في تلك المساحة الضيّقة بين أبواب الغرف، فبدت كأنها عالقة في متاهة لا تعرف سبيلا للخروج منها.
وعلى أيّ حال، ورغم تفرّدها ب«البطولة»، إلا أنها كانت تعرّفنا بجميع الذين هناك، بمجرّد استفزازهم وانتظار ما ستكون استجابتهم. هو فيلم عنهم جميعا، وبحصّة مساوية لكل منهم، طالما أن ظهور واحدهم، ولو في مشهد عابر، سيظل محفوظا في ذاكرة من سيراه. ذاك الرجل الذي، فيما هو يرتّب مكان جلوسه على المقعد، أوقف حركته، قبل جلوسه، حتى بدا أن شيئا تعطّل في التصوير ليعود فيستأنف بعد انقضاء أربعين ثانية، ذلك الرجل لا ينسى مشهد تأمّله، أو انتظاره. كما لا يُنسى ذلك البطء الذي وقعت فيه تلك النزيلة، فيما هي تطلب النجدة لأن المرأة الجالسة إلى جانبها ارتطمت بالأرض من لحظة ما قامت واقفة.
فيلم قصير عن المأوى أو عن الحياة في آخر العمر. هنا لجريان الزمن وتيرة أخرى ولمظهر الحكمة دلالة معاكسة لما يتحقّق عادة من الحكمة. شيء يشبه العودة التامة إلى الطفولة، أو هي الطفولة الأخيرة التي لا وعد بما بعدها. وكان الفيلم، فيما نشاهده ضئيل المساحة على شاشة الكومبيوتر، يضحكنا، مرة بعد مرة، تاركا أشتات الحزن تتجمع معا، في ركن ما من الرأس، لكي تحل محل الضحك، بعد دقيقتين من انتهاء الفيلم. هو فيلم قصير لكنه مثير لمشاعر لن تتوقف عن الاتساع. مرات كثيرة عدت إليه. ودائما أتساءل إن كان إبقاؤه هناك مع أفلام أخرى مختلفة العناوين والمقاصد بمثابة تحوّل جديد للصحف، يأتي نتيجة للتغيّرات التي وجدت الصحف نفسها مضطرة إلى ابتكارها، بعد أن صارت لها مواقع على الإنترنت. وما فاجأني أيضا هو وضع فيلم المأوى ذاك تحت عنوان «رأي» بما يذكر بعناوين صفحات الجرائد، لكنه إلى ذلك يقول لنا إن هناك قفزة في معنى كلمة رأي تتعدّى إطارها السابق الذي يتطلب من المشاركين في السجال على أن ينقسم رأيهم بين موافق وغير موافق.
*حوارات الفيلم جارية بالإسبانية، وهو من إخراج ماتيي ألبردي وجييدري زيكيتي ويمكن مشاهدته تحت عنوان I am not from here على موقع غوغل، أو في الباب المخصص للأفلام القصيرة على موقع صحيفة «نيويورك تايمز».
٭ روائي لبناني