هكذا يكون الآبناء …
تقول فتاة . تقدّم أحدُهم لخطبتي وكان شرطه الوحيد للزواج هو الإعتناء بوالدته ،، أخبرني بأنه لن يطلب مني أكثر من ذلك فقط أُراعي أمه وقت غيابه… فأُمه طريحة الفراش منذ عشرة أعوام ،، فبعد وفاة والده لم يبق له سواها من الحياة ،،
فقط هذا شرطي أمي…. أعرف بأنكِ لستٍ مُكّلفة برعايتها أو خدمتها ولكن إذا وافقتي فستعملين ذلك من باب إنسانيتك وطاعةً لي.. هكذا أخبرني…
كانت أمه تعرضت لحادث سير مُرعب فقدت معه التحكم في جسمها بالكامل وشُلت أطرافها ،، وكان هو القائم برعايتها ، ولكن نظراً لدراسته وعمله هناك أوقات يغيب عنها وهي بحاجة إلي أدوية وإهتمام… فكّرت كثيراً وتحيّرت أكثر ،فهذا كأنه بحاجة إلي خادمة وليس زوجة…
تكلّمت مع والدي الذي خفف من ضجيج تفكيري وقال لي : اسمعي ابنتي هذا مستقبلك وليس لي حق التأثير عليكِ ولكن طالما سألتيني رأيي فأنا أؤمن جيداً بأن صنائع المعروف تقي مصارع السوء ،، وشخص كهذا حريص علي والدته فلن يُضيعك معه ولن يظلمك حقك… إن أحبك أكرمك ، وإن كرهك لن يظلمك ،، فإذا كنتِ ستُراعي أمه ليس بشكل يُرضيه ولكن ستضعيها في مقام أمك فاقبلي ابنتي ،، وإذا كان الشيطان سيجد بابه إلي قلبك فيحملك علي ظُلمها فقولك… لا….. أسلم لكِ..
تزّوجنا فعلاً ،، وفي أول ليلة لي معه أخذني إلي غُرفتها ،، صُعقت من منظر الغرفة كانت كقطعة من الجنة ،، ألوانها ،، ترتيبها ،، وسائل التدفئة فيها ،، مُختلفة تماماً عن باقي البيت ،، تركني واقترب من سريرها كانت نائمة أخذ يهز كتفها برفق قائلاً : ماما ،، لقد أحضرت هديتي لكِ ،، هذه زوجتي آلا تريدي رؤيتها!!!
فتحت عينيها برفق ونظرَت له بابتسامة وديعة ثم حوّلت نظرها عليّ ،، لا أستطيع وصف تلك اللحظة ،، تلك عيونها مليئه بألم وثغرها مبتسم بحُزن ،، كان وجهها كالقمر في ليلة تمامه ،، هادئ جداً لإمرأة في السبعين من عمرها…
قالت : مُبارك عليكِ بُنيتي زفافك ،، وأدعو الله أن يهدي لكِ صغيري هذا ،، وأن يرزُقك ولداً باراً مثله ،، وآلا تكوني ثقيلة عليه مثلي ،، ثم ذرفت عينيها دموعاً أشبه بفيضان سُمح له بالجريان.. سارع لمسح دموعها بكم بذلته وقال : هذا الكلام يُغضبني وأنتِ تعلمين ذلك ،، أرجوكِ ماما لا تُعيديها ،، واقتربت أنا منها وقبّلت يدها ورأسها وقلت : آمين.. ماما…
مرت أيامي في هذا البيت ودهشتي فيه تزيد يوماً بعد يوم ،، كان هو من يُغير لها الحفّاظ ،، وكان يُحممها في مكانها بفرشاة الإستحمام… وكان يُبلل لها شعرها ،، ويُسرحه لها وعندما تألمت من المشط أحضر لها مشطا غريبا كان من الورق المقوى ناعم من أجل فروة رأسها ،، كان قد رآه في أحد الإعلانات التجارية …. أحضره لها ،، سُرّت جداً بذلك المشط ،، كان يُضّفر لها شعرها في جديلتين صغيرتين ،، كانت تخجل عندما يفعل لها ذلك وتبتسم بحياء وتقول : لست صغيرة علي هذا أيها الولد ،، فلتُنهي ذلك ،،، كان يرد : عندما يُعجب أحدهم بكِ فستشكُريني ..عندها كانت تغرق في ضحكٍ عميق كنت أراه من خلف ذلك الضحك ينظر لها كطفل مازال في السادسة من عمره…. حقاً كان يُحبها…. وجداً….
لا أعرف ماذا قصد عندما أخبرني بأنه يريدني أن أعتني بها ،، هو يفعل كل شئ…. أخبرني بأن وقت خروجه وعمله يستثقله عليها بأن تكون فيه وحيدة….
كنت أستغرب كيف يجد وقت لكل ذلك ،،، فقط كنت أنا أساعدها في تناول وجباتها وأخذ أدويتها…. هذا كل دوري…
أحببت علاقته بها جداً ، كان مُتعلق بها وهي أكثر ،، كان يستيقظ في الليل على الأقل ثلاث مرات لينقلها من جانب لآخر حتي لا تُصاب بقُرح الفراش وليطمئن عليها….
كان مع كل مُناسبة يُحضر لها ملابس جديدة ،، ويُشعرها بجو تلك المناسبة بمساعدة التكنولوجيا…
وفي أحد المرات كان قد نسي إحضار حفاظاً لها ،، وعندما استيقظ ليلاً للإطمئنان عليها شم رائحة قذارة فعرف أنها قد أطلقتها علي نفسها ،، كانت تبكي جداً وتقول آسفة حدث ذلك رغماً عني… كان مُنهمكاً في تنظيفها وهي تبكي وتقول : أنت لا تستحق مني ذلك.. هذا ليس جزاءً لائقاً بك ،، أدعو الله أن يُعجّل بما بقي لي من أيام…
أخبرها قائلاً : أفعل ذلك أمي بنفس درجة الرضا التي كنتِ تفعليها بها في صغري ،، وبكيتُ أنا ،، هذا الرجل فعلاً رزق جميل….
أنجبت منه ولد ،، تمنيت أن يكون مثله في كل شئ ،، فحملته وذهبت به عند جدته ووضعته في حضنها وقلت لها : أريده مثل ابنك… فابتسمت وقالت : صغيري هذا رزق لي ،، والرزق بيد الله عزيزتي ،، فادعِ الله أن يُربيه لكِ…
كانت حياته كُلها بركة وخير ، لم يتذمر منها قط لا أمامي ولا أمام غيري…. كانت رائحته تفوح بالبر بأمه حتي ظننتُ أنها تكفي جميع العاقين……
هذا الإبن البار : إنه الدكتور / محمد راتب النابلسي حفظه الله ورعاه وبارك في عمره
نحنُ لا نقص القصص لينام الأطفال بل ليستيقظ الرجال .