هل هناك فكر عربي حديث؟

هل هناك فكر عربي حديث؟

هل هناك فكر عربي حديث؟

ينطلق هذا السؤال المُحرج من المرجعية الكامنة في المقال السابق «هل كانت هناك نهضة عربيّة فعلاً؟» الذي نشر في «القدس العربيّ». وتكمن الغاية من هذا السؤال في معرفة ما طبيعة ما أنتجه الفكر العربيّ أمس، وينتجه اليوم، ومدى مُساهمته في ما تُنتجه الإنسانية في هذا الصدد من أفكار نيِّرة. وحتّى نصوغ الإجابة المُلائمة لهذا السؤال لا بدّ من العمل على توضيح أمريْن: ما الفرق بين المعرفة والفكر، وما أصناف المعرفة.
لا نُريد أن ندخل في النقاش الفلسفيّ حول ما إذا كان الفكر مُحدِّدا للوجود أم لا (ديكارت)، وما ينتج عن هذا السؤال من مأزق معرفيّ (هيوم- نيتشه)، بقدر ما يُهِمّ الوقوف عند ارتباطه بعملية التفكير التي تضمن للإنسان تكوين معرفة جيِّدة في صدد ذاته ومُحيطه، والقدرة على تحسين شروط وجوده. وليست المعرفة إلّا نتاجَه الموضوعَ رهن إشارة الاستعمال. ولا تصير المعرفة فاعلة في الفكر إلّا في اللحظة التي تصير فيها مُساعدة له على تطوير آلياته، ويتجلّى حضورها أكثر حين ينعكس الفكر على نفسه متأمِّلا ذاتَه؛ بحيث لا يَكتفي بالتفكير في طبيعة موضوعاته، وكيفية فهمها ومُعالجتها وتفسيرها فحسب، بل يعمل أيضا على مُراجعة فعله باستمرار عن طريق طرح الأسئلة حول الطرائق التي يستخدمها في تحصيل المعرفة، ومدى ملاءمة الأدوات والآليات التي يستعملها للأهداف التي يُسطِّرها. وحين تُعَدُّ المعرفة نتاجا للفكر فمعنى ذلك أنّها تكتسي طابع الصياغة التجريديّة للنتائج التي يصل إليها. كما تُعَدّ المعرفة في أحد صنوفها نوعا من الفحص لعمل الفكر؛ بحيث تسعى إلى تنظيم حصيلته، وترتيب موضوعاته، وضبط صيرورته في الزمان. ولهذا وُجِدَ علمٌ مخصوص يهتمّ بتاريخ الفكر وتطورّه وتكوّنه والمعُضلات التي واجهته. ووُجِدَ أيضا نزوعٌ نحو ضبط ما يسود في عصر مُعيَّن من مبادئَ مُنظِّمةٍ للفكر ومُوجِّهةٍ له ومُتحكِّمة فيه. وحتّى يقع التمييز على نحو دقيق بين الفكر والمعرفة نَعُدُّه فعلا ذهنيّا مُوجَّها نحو العالم من أجل معرفته بغاية العيش فيه، وضمان البقاء فيه، بينما تُعَدُّ المعرفة نتاجا له، ولا تظلُّ مُجرَّد حصيلة فحسب، بل تتحوّل أيضا – في نهاية المطاف – إلى وسيلة لتحسين أداء الفكر، من طريق فحص الكيفية التي يتمّ بها، وسياق الشروط التي يحدث فيها (كانط).
ينبغي أن لا يُستنتج من الوصف الذي شملنا به المعرفة أنها واحدة مُوحَّدة؛ فهي صنوف مُتعدِّدة ومُختلِفة، وسنكتفي بالوقوف عند ثلاثة منها لها صلة بموضوعنا. وهي: معرفة التفكير، ومعرفة الفعل، ومعرفة الكينونة. تتّصل المعرفة الأولى بما أوضحنا مُحتواه أعلاه، حيث تكُون نتاجا للفكر ووسيلة لفحص دِقَّته وصلاحيته وضبط صيرورته. وتتّصف المعرفة الثانية بكونها ذات صبغة براغماتيّة تقنيّة، تمثُل وظيفتها في تمكين الإنسان من إتقان مجموعة من التصرّفات التي هي نتاجُ تعلّماتٍ أو مراسٍ تدريبيّ، كأن نعرف كيف نستعمل هذه الآلة أو تلك، أو كيف ننفذ هذا البرنامج أو ذاك. ويكُون الفكر في هذا الصنف المعرفي في درجة الصفر، إذ لا يتعدّى الطابع المهاريّ لهذه المعرفة الالتزام التامّ بمجموعة من الآليات المُتعلَّمة والمُختزنة. إنّ معرفةَ الفعل معرفةٌ ذاكرتيَّة بالدرجة الأولى؛ حيث لا تُقام إلا على التأكّد من استذكارِ الموضوع، وما يحتاجه من خطوات لإنجازه. بينما تتعلّق معرفة الكينونة بالمعلومات والطرائق التي تجعل الإنسان يعيش على نحو أفضلَ، وتجعله يُقدِّم أنفسنا بشكل جيّد للآخرين. والغاية من هذا المحافظة على الوجود الذاتيّ (و/ أو الجماعي) وسط المُحيط بكلّ أشكاله (البيولوجيّ والسوسيولوجيّ والاقتصاديّ…الخ)؛ فمعرفة الكينونة تمكن الفرد من بناء صورة له مقبولة من قِبَل المُجتمع، ومن قِبَل الهيئات والمُؤسَّسات، وإذا كانت هذه الأصناف الثلاثة من المعرفة مُتمايِزة من حيث فعاليتُها وطرائقُها فهي مُترابِطة على نحو ما؛ فمعرفة التفكير هي التي تُنتج ما نستطيع بوساطته توظيف المعلومات بطريقة جيِّدة في معرفة الفعل، كما أنّ هذه الأخيرة هي التي تُساعد الفكر في عمله، خاصّة في المجال العلميّ الاختباريّ، فالأجهزة التي تُستعمل في البحث العلميّ لا بدّ من أن تكُون دقيقة، ولكي تكُون كذلك لا بدّ من أن يتوافر الطابعُ المهاريّ لمن صنعها، أو ركَّبها. كما أنّ معرفة الكينونة تُساعد على ضمان صحّة المُفكِّر، والأجواء المُناسِبة التي تساعده على الإنتاج.
نأتي بعد التمييز بين المعرفة والفكر وضبط أصناف هذه الأخيرة إلى التساؤل المُنطلَق منه: «ما الذي يُنتجه الفكر العربيّ اليوم؟». ونُثير التنبّه – هنا- إلى أنّنا لم نضع الفكر بين قوسين، وفضّلنا تركَ الحسم في هذه المُهمَّة للقارئ. وأظنُّ أنّ الإجابة عن التساؤل المذكور ترتبط بأسئلة أخرى يتطلّبها وهي: هل يستحقّ الفكر لدينا تسميته هذه؟ وإذا كان الفكر مُرتبطا بالمعرفة فما نوعها السائد عندنا؟ وهل يوجد تفاعل مُتضافر بين أصناف المعرفة الثلاثة؟ ينبغي أن نشير- قبل التقرير في شأن الإجابة المُمكنة – إلى أنّ الفكر والمعرفة مظهران سوسيولوجيان، بمعنى أنّهما ليس مُرتبطيْن بالإرادة الفرديّة، بل بما يتجاوزها إلى إرادة المُجتمع، وما (و/ أو مَنْ) يُنتِج هذه الإرادة. ويُعَدُّ الفكر- ترتيبا على هذه القناعة- مُرتبِطا بصيرورة سوسيو- ثقافيّة، وكذلك استعمال المعرفة وتدبيرها. وإذا كنّا قد قرَّرنا في المقال السابق عدم وجود نهضة عربيّة، وإنّما إنهاضٌ، فإنّ علاقة إرادتنا بالفكر والمعرفة ظلّت طيلة القرن العشرين، وما زالت كذلك في هذا القرن مُوسَّطة بإرادة الغير؛ أي أنّنا نتّصل بمُختلِف مجالات المعرفة بوساطة ما يُقدِّمه لنا هذا الغير من نتاج، ومن آليات. فالتبعية ليست واردة على المُستوى السياسيّ، والاقتصاديّ فحسب، بل أيضا على المُستوى الفكريّ والعلميّ. وهكذا، فكلّ ما يُمْكِن أن نُقرِّره- في هذا النطاق- هو أنّ علاقتنا بالفكر لا تتعدّى تقديم نتاج غيريّ ليس لنا، نعم هذا النتاج هو إنسانيٌّ كونيٌّ بكلِّ تأكيد، لكن ينبغي التساؤل إلى جانب إقرار هذه الملاحظة عمّا حجم مُساهمتنا فيه، وما طبيعة حضورنا فيه؛ ففعلنا لا يتعدّى- في هذا الجانب- دور الوكيل الأمين الذي ينوب عن غيره في الكلام، بل إنّنا نقوم بهذا الدور أحيانا على نحو سيئ عن قصد أو عن غير قصد. ومن آفة هذا الوضع الذي يوجد عليه الفكر العربيّ اليوم أنّه لا يطمئن لأيّ حركة تأتي من داخله، فينظر إليها بعين عدم الرضا أو الريبة، كما أنّه لا يطمئن إلى صوته الخاصّ، فيلجأ إلى مُضاعفته بأقوال الغير الذي ينبغي أن يكُون غربيّا بالدرجة الأولى، بل يحرص على ألّا تُوضع هذه الأقوال موضع شكّ. وممّا يُثير الاستغراب المُفارقةُ العجيبة الناجمة عن الجمع بين التماهي مع فكر الغير ومُحاولة إثبات الذات، ولا يكمن وجه الغرابة في هذا الجمع المُتنافر، بل في التماس صفة التفرّد من عند هذا الغير نفسه، وقد يكُون هذا الالتماس مُصرَّحا به، أو غير مُصرَّح به، بيد أنه دالٌّ على العجز، والرهاب من الصوت الخاصّ.
إذن نحن غير مُنتجين فكريّا، ولا تكفي بعض المُحاولات الاستثنائيّة في مجال العلوم للقول بغير هذا، ولا يتعدّى الدور الذي نقوم به في أحسن الحالات التمهيد الدائم لما يُنتجه الغير كي يصير مُستبطَنا من قِبَل الأوساط المعنية بإنتاجه. وحتّى المُحاولات التي رامت مُمارسة التفكير خارج الارتهان بالوساطة المُشار إليها أعلاه، فلم تخرج من مدار التبعية: إمّا بتنظيم التراث بوساطة آليات غيريّة، وعلى نحو مُضطرب، وإمّا بالتوجّه نحو السؤال الخاصّ، لكن وفق إجابات جاهزة مُحضَّرة في النسق الفكريّ الغيريّ، وإما باجتراح المفاهيم وتوليدها واشتقاقها، وهو مجهود محمود، لكنّه كان يتم انطلاقا من التبعية الأخلاقيّة لجثّة التاريخ القديم.
يبقى- إذن- تحديد الصنف المعرفيّ الذي يُميِّز علاقة الإنسان العربيّ الحديث والمُعاصر بإرادة المعرفة. أظنّ أن الصنف الثاني هو السائد؛ حيث تمثُل الغاية منه في تكوين الإنسان من أجل استعمال خبرات مُعيَّنة، أو أجهزة ما، أو توصيف حالات مُحدَّدة وتشخيصها. ولهذا نفهم الكيفية التي تُقام بموجبها البرامج التعليميّة، وتُصاغ المناهج الدراسيّة. فما يغلب عليها هو الجانب التقنيّ الصرف، ولا يمثُل هذا في المُستويات التعليميّة العليا فحسب، بل أيضا في المُستويات الدنيا، كما تتميَّز هذه البرامج والمناهج بالافتقار إلى ما يُنمِّي القدرات العقليّة المُفضيَّة إلى الإنتاج. وهكذا فإنّ هذا البعد المهاريّ يكاد يتجلّى في كلّ شيء، حتّى في المعرفة الفلسفيّة والنقديّة، والاستثناء لا يُقاس عليه إذا ما وُجِدَ؛ فالتيارات الفكريّة والمناهج والمُقاربات كلُّها مُستوردة، من دون إسهام بيِّن، حتّى لو كان من باب العناد، بل لا يقف الأمر عند استيراد الأجهزة فحسب، بل يتعدّاها أيضا إلى التطبيقات التي تطول النصوص على اختلافها؛ فهي تسترشد بغيرها ممّا تحفل به التجارب الأصليّة في مصادرها الغربيّة. وممّا يُؤلم في هذا الصدد هو أنّ معرفة الفعل هاته المُتعلِّقة بالجانب المهاريّ تكُون في أحايين كثيرة غير مُتقنة. وحكم من هذا القبيل لم يَعُد في حاجّة إلى ما يُؤكِّده ميدانيّا، إذ صار إحساسا عامّا تترتَّب عليه عواقبُ وخيمةٌ على المُستوى الاقتصاديّ. ويتجلّى هذا الإحساس في فقدان الثقة في كثير ممّا يُنتج في العالم العربيّ من إنتاج سواء أكان صناعيّا أم فكريّا، بل يمتدّ عدم الثقة هذا إلى مجالات أكثر ارتباطا بمصير الإنسان مثل الصحّة.
أكيد أنّ توصيف الحال على هذا النحو يُعَدّ ضرورة لا بدّ منها، غير أنّه لا يدّعي أنّ الواقع أسودُ، ولا يُمْكِن تجاوزه، بيد أنّ هذا الأمل لا يُعَدُّ مُرتبطا بالنيات والإرادات الطيِّبة؛ فهو يتجاوز الأفراد، وقدراتهم الشخصيّة، إذ إنّ هناك ظرفا تاريخيّا تحكّم في إنتاج ما نحن عليه، ولم يرتفع هذا الظرف التاريخيّ بعد؛ فالمعرفة مُوزَّعة اليوم في العالم، كما يُوزَّع القوت، وهناك خطوط حمراء في ما يخصّ عديدا من المعارف، كما أنّ هناك إرادة للإبقاء على العقل العربيّ في درجة الصفر التي هو عليها، لأنّ هذه الإرادة تعلم أنّ الفضاء العربيّ ليس مُجرَّد جغرافية مُهمَّة فحسب، بل هو أيضا حضن تاريخ وحضارة، ينبغي ألّا تستفيق؛ إذ ليس ما تنعم به أوروبا اليوم سوى استئناف للنفَس الأخير لحضارة أعلنت عن مشروعها الجنينيّ في لحظة احتضارها. وهذا ما سنتناوله في المقال المقبل.
أديب وأكاديمي مغربي

m2pack.biz