«يوميات آخر ضبع في الشعانبي» لعدنان الهلالي.. خطاب الشعاب والهضاب
«اليك نص ضبعون خطاب الشعاب والهضاب…»
هكذا دون الكاتب عدنان الهلالي الإهداء الذي خصني به في النسخة التي أمدني بها من روايته «يوميات آخر ضبع في الشعانبي»، وما بين العنوان والإهداء الخاص وشائج عديدة، فالعتبتان تقدمان الرواية وتموقعانها في فضاء خاص ومثير… فالعمل يخرج بنا من فضاء المركز، أي المدن والعواصم والمناطق الجاذبة إلى فضاء الهامش، حيث المعاناة والنسيان فنحن أمام تلويح بخطاب منغرس في عوالم المهمشين وتربتهم الطيبة، أي في عالم الريف حيث الهضاب والجبال والذئاب والضباع والحشائش الطيبة، حيث يصمد الجمال رغم الدم والغدر، ولعل الكاتب بنفوره من فضاءات المدينة وتوجهه إلى هذا الفضاء ينتصر لهذا الهامش ويحاول التوغل في ثناياه، وهذا ليس بغريب عنه باعتباره مهتما ومؤسسا لجملة من الفعاليات الثقافية، مدارها الثقافة الجبلية، وقد اختار عدنان الهلالي أن يجعل القارئ أمام مفارقة تجنيس العمل، فهو يمزج بين رواية ويوميات. فأما كلمة رواية فجاءت في خانة الصنف الأدبي، وأما يوميات فوردت في العنوان، وهو ما يجعل العنوان بدوره حاملا لخطاب ميتاسردي يصنف العمل… فنحن أمام عتبات تلقي بنا أمام ضربين من الكتابة السردية، وهو أمر قد يبدو لدى البعض غير مثير للاهتمام، ولكن التوقف عنده ضروري لا لإجهاض التجربة ورميها بالتناقض، ولكن لتبين صلة الرواية باليوميات… أليس الأمر محيلا إلى ضربين من الكتابة يجمعهما السرد والحكي، ولكن يفرقهما النوع الأدبي؟
فاليوميات هي من فروع السيرة الذاتية إلى جانب الرواية السيرية والمذكرات، وتتميز بأسلوب سلس وتلقائي، وقد تجمع بين السرد والتأمل وعادة ما يتولى بعض الأفراد كتابة يومياتهم أو يوميات غيرهم ويغلب عليها طابع الصدق والواقعية، كما لا تفرض حبكة سردية معينة على خلاف الرواية التي يغلب عليها التخييل، وتتميز ببناء حكائي وحبكة سردية… ولكن الرواية الحديثة فتحت صفحاتها لكل الخطابات والفنون، وعجت بأنواع الكتابة من أجناس أدبية قديمة وأخرى حديثة، ومن وثائق إدارية ومقالات صحافية ومخطوطات تاريخية وغيرها من ألوان الكتابة… ولعل اليوميات كانت من أهم الأنواع التي احتضنتها الرواية الحديثة، وتجربة عدنان الهلالي تندرج في إطار هذا التوجه، ولكن طرافة اليوميات في هذا العمل أن راويها شخصية حيوانية في هذا المجال، إذ يتولى سردها ضبع، وبهذا يستعيد الكاتب أسلوبا من أساليب السرد العربي القديم، الذي يرد على ألسنة الحيوانات، وهو ما يفتح أعيننا على حضور التراث السردي في هذا العمل، من خلال نهج القصص الحيواني، وهو نهج مهم في التاريخ العربي، ومن أبرز أمثلته الخالدة في الثقافة العربية كليلة ودمنة… لكن السرد الحيواني هنا لا يذهب مذهب الحكمة والمثل، وإنما يندرج في إطار كتابة تحاول أن تشهد العصر وتلتقط ملامح اللحظة… ولا يلزم الضبع وغيره في هذا العمل الشكل الحيواني ولا البقاع التي يوجد فيها عادة، ولكنه يختلط مع البشر ويأخذ هيأتهم وفضاءاتهم فهو يزور الحانة ويتخذ قوارير وندماء:
«صفقت لنفسي مزهوا انحنيت احيي فزاعات الظلام واتجهت نحو حانة الزهور التي تغلق احيانا أبوابها باكرا، فعجلت حتى لا تفوتني قدود الشعير ووعود السعير دخلت واتكأت على الكونتوار مرتكزا على مرفقي
– حارة يا ذيب
– حارة دفعة واحدة يا ضبعون؟ ستستحم بها؟
– حارة يا ثعلوب حارة لن تكفي لأغسل وجهي من بصاقك المتطاير…».
إن مغامرة السرد في هذا العمل تكتسب أهميتها من هذا التخييل الحيواني ومحاولة التسلل إلى هذا العالم الوهمي بشكل يضخ طرافة في النص ويجعله حاملا طابع السخرية والإضحاك، كما تكتسب هذه المغامرة أهميتها من رمزية جبل الشعانبي الذي يلوح في العنوان وفي فضاءات الحكاية، فلهذا الجبل بعد بيئي وطبيعي أحسن الكاتب توظيفه، كما له بعد سياسي اكتسبه في السنوات الأخيرة، حيث جدت في مسرحه أحداث إرهابية مؤلمة استهدفت الجيش التونسي وقطنه الإرهابيون، وهو ما أعطاه نوعا من الرمزية. ولعل هذه الرمزية كانت منطلقا لبناء هذه التجربة الروائية ودافعا للقارئ لالتهام هذا النص الذي استلهم جانبا من تلك الأحداث الأليمة.
وإذا كان الكاتب قد مزج الإنساني بالحيواني والدموي بالجمالي في هذه اليوميات الروائية، فلا يمكن أن نمر من دون التفاتة إلى جمالية إحدى العتبات ومعانقتها لخيبة أفق الانتظار، وهو ما يكسبها طرافة مخصوصة ويتعلق الأمر بعتبة التقديم التي وردت تحت عنوان «من سرد المغامرة إلى حبك المؤامرة»، وتسند هذه العتبة عادة إلى أحد الكتاب، أو الشخصيات لتحبيرها كي يقدم فيها الكتاب، ولكن الهلالي خرج عن المألوف وجعل هذا التقديم مجرد وهم روائي فجاءت المقدمة بتقديم الخنزير خنزو وهيب شخصية حيوانية، وهذا التخييل فيه نوع من الطرافة والمحاكاة الساخرة لمقدمات الكتب الأدبية، لكنه يحمل إضاءات مهمة عن العمل هي في الحقيقة بقلم الكاتب، ولكنها مسندة إلى خنزو الذي يبدو مجرد قناع وهو يخاطب القارئ في ختام تقديمه قائلا: وأنت تقرأ هذا النص المديد ستجد نفسك شخصية تلعب طورا ما في أحد مشاهده… ستكون ثعلبا أو خنزيرا أو دبورا أو ضبعا أو جرادة أو جروا غضا أو بومة أو قرادة أو نزوة أو إرادة، وقراؤه من بني البشر سيتلذذون الحلم بغير لغتهم سيحلمون بلغة الحيوانات ستطرب لصريرهم أو طنينهم أو عوائهم أو زئيرهم…..».
لعلنا بهذه الإطلالة على العمل من بوابة عتباته نرصد تجربة روائية تحاول أن تأخذ طابع المشاكسة والاستفزاز وهو ما يتأكد في الحكاية، حيث اللغة الساحرة والمشاهد الساخرة والموجعة.
كاتب وباحث تونسي
رياض خليف