عواطف الجماهير وأخلاقيتها 4من اصل4
وأيًّا تكن حيادية الجمهور، فإنه يجد نفسه في غالب الأحيان في حالة من الترقب المهيأة لتلقي أي اقتراح، وأول اقتراح يظهر يفرض نفسه مباشرة عن طريق العدوى والانتشار لدى كل الأذهان، ثم يحدد الاتجاه الذي ينبغي إتباعه حالًا. ولدى الأشخاص المستثارين تميل الفكرة الثابتة إلى أن تتحول إلى فعل، وسواء أكان هذا الفعل هو حرق قصر أم القيام بعمل خيري جليل فإن الجمهور ينخرط من أجله مباشرة وبنفس السهولة. وكل شيء يعتمد على طبيعة المحرِّض، وليس على العلاقات الكائنة بين العمل المحرِّض عليه وبين حجم السبب الذي قد يعاكس تحقيقه كما هو عليه الحال لدى الفرد المعزول.
إن الجمهور يشرد باستمرار على حدود اللاشعور ويتلقى بطيبة خاطر كل الاقتراحات والأوامر. كما أنه مليء بالمشاعر الخاصة بالكائنات غير القادرة على الاحتكام للعقل ومحروم من كل روح نقدية. وبالتالي فهو لا يستطيع إلا أن يبدي سذاجة وسرعة تصديق منقطعة النظير. والمستحيل غير موجود بالنسبة له، وينبغي التذكير بذلك من أجل أن نفهم كيف تخلق الأساطير والحكايات الأكثر غرابة وشذوذًا، وكيف تشيع وتنتشر بسهولة(1).
إن خلق الأساطير التي تنتشر بمثل هذه السهولة في أوساط الجماهير ليس فقط ناتجًا عن سرعة كاملة في التصديق، وإنما عن تشويه هائل أو تضخيم هائل للأحداث في مخيلة الأفراد المحتشدين (أي الجمهور). فالحدث الأكثر بساطة يتحول إلى حدث آخر مشوه بمجرد أن يراه الجمهور، فالجمهور يفكر عن طريق الصور، والصور المتشكلة في ذهنه تثير بدورها سلسلة من الصور الأخرى بدون أي علاقة منطقية مع الأولى، ويمكننا أن نتصور بسهولة هذه الحالة عن طريق التفكير بالتتابع الغريب للأفكار الذي يقودنا إليه تذكر حدث معين. والعقل يبين لنا عدم تماسك مثل هذه الصور، ولكن الجمهور لا يرى ذلك. فالواقع إنه يخلط بين التضخيم الذي يلحقه بالحدث وبين الحدث ذاته. وبما أنه غير قادر على التمييز بين الذاتي والموضوعي فإنه يعتبر الصورة المثارة في خياله بمثابة الواقعية والحقيقية، هذا على الرغم من أنها ذات علاقة بعيدة جدًا مع الواقعية المرئية.