الواقع… خشبة التفلّت محترقة بنار الزمن
الواقع لا ينام في حضن التخيّل أو الظنّ. دائماً هو في المنظور. وفي دائرية الملموس. إذا ذُكر له الماضي، خطا بأوراق الخريف، أو المستقبل تطلّع صوب الغيم، وسلّط عليه حضور الزمن الدائم. تمرّ الصدفة عابرةً، فيحيلها إلى واقع، فتتوارى فيه. إنه ثابت في نظرية الثبات. ولكنّه تحوّلي في دائرة التحوّل، ومتبدّل في شريعة التبدّل. يكون في ذاته ومن خلال سواه، ويكون سواه، من خلال علاقته وارتباطاته الحتمية. مستيقظ أبداً، وله ألف نجمةٍ تطير من أحضانه، ونائم، وألف نجمةٍ تسقط من بين يديه!
الواقعُ يحيط ويتلبّد بغلاظة، وميدانه واسعٌ جداً. يخدّرُ السابحُ في بحره، وإذا أغرقهُ لا تنقذه أي شواطئ. هو سفينة في مفهوم السفر الاجتماعي، والعمري، وصخرةٌ في مفهوم السفر من دون هواء!
حتميته الارتباط بالإنسان، وتلوين خطى هذا الإنسان من غير عودةٍ إليه، ولا الوقوف إلى رأيه، من حيث تناسقية الألوان، وإيحائية هذه الألوان وأبعادها. يمسك من يد الإنسان في رتبة الصداقة ويفلت يده في حالك الظلمة، على أنه العدو الألدّ. يشتري الفرد ويبيعه، بحريّة تامة، يسجنه ويطلق سراحه، من دون العودة إلى أيّ قاضٍ مهما علا شأن هذا القاضي. يحوّل الإنسان إلى طابةٍ تكاد لا تلتصق بالأرض، حتى تطير في الفضاء، وتتوه بين تموّجات الضغط، وفلتان الجاذبية وانعدامها.
الواقع مختبئ، في حيّز المفاجأة، ليلد من المفاجأة واقعاً آخر، وقد يكون مغايراً له، ولكن هذه التغايرية، ليست مهمة، والمبدأ رسم واقعٍ آخر وغير متوقَّع.
وعن الحوار والنقاش معه، فهو “تيس” بكل ما للكلمة من معنى، وملتصق، ولا خلاص، إلا بقبعه قبعاً، وبالوقوف في وجهه وقفة الشوك للانعتاق منه والتحرر. هذا في حاله السلبية، اما في حال الإيجابية، فالاطمئنان إليه مسألة تستحقّ التبصّر والانتباه!
ومن أن للواقع أوجهاً مختلفة ومتباينة، فهو موضوع مختوم بواقع الواقع… بين كثبان الرمل، وفي حرّ الصحراء، وبردها، وتنقّل شكل أرضها من وجه سطحوي إلى وجه متجعّد ومتلوٍّ، فنحن في واقع صحراوي مرعب، ومقلق، وعرضة للتيه مدى كل لحظة أو برهةٍ، والجوارح تحوم فوق الرؤوس.
وفي قيلة إلى ظلّ شجرة، والتغريد، فنراهم فوق أماليدها، فنحن في واقع أرضوي غني وخصب، والآمال كالضباب يملأ الأودية. وفي حالة أن العلاقة مع هذا الواقع نسبية، فإن هيمنة هذا الواقع وتمسمره يجب أن يكونا نسبيَين أيضاً.
وعن الصدمة من ضراوة الواقع بالمطلق، أنّ الإنسان، ليس له الحريّة المطلقة، ولا في أي تقدير أو محاولة. وفي ذلك، فالإنسان في واقع العبودية قصرت حياته، أو طالت، والخلاص من هذا مستحيل، لتلازمية الطريق التي يمشي، وترسخها في غور هذا الواقع، وخشبة التفلّت، محترقة بنار الزمن.
ومن أجمل ما قيل عن الواقع، جاء على لسان نيكوس كازنتزاكيس:” في حال أننا عجزنا عن تغيير واقعنا، دعنا نغيّر عيوننا التي ننظر بها إلى ذلك الواقع”.