أفلام مهرجان دبي السينمائي العاشر (6) “علبة الغذاء”.. لمسة حنان هندية
للمرة الأولى في الشرق الأوسط، وعلى هامش فعاليات مهرجان دبي السينمائي في دورته العاشرة، عرض بالأمس الفيلم الهندي “لنشبوكس” أو “علبة الغداء” ضمن “مسابقة المهر الآسيوي الأفريقي” للأفلام الروائية الطويلة، والذي يوصف بأنه واحد من الأفلام البارزة في تاريخ السينما الهندية، بعد أن حصل على إشادة عالمية في مهرجان كان السينمائي واكتساحه شباك التذاكر في دور السينما بالهند، وقد ترك الفيلم أصداء دولية واسعة وقوبل بإعجاب جماهيري كبير في جميع المهرجانات السينمائية التي عرض فيها، حيث عرض للمرة الأولى عالميا في مهرجان كان السينمائي، وفاز بجائزة اختيار مشاهدي “أسبوع النقاد”، كما تم عرض الفيلم أيضا في “مهرجان تورنتو السينمائي الدولي”، ومن المقرر أن يتم عرضه في صالات السينما بالولايات المتحدة الأميركية في العام المقبل، كما سيتم عرضه في صالات السينما بالإمارات ابتداءً من يوم 27 ديسمبر الحالي، ويلعب دور البطولة فيه عرفان خان الذي تألق من قبل في فيلمي (لايف أوف باي وسلامدوج مليونير)، والممثلة نميرات كاور وأخرجه المخرج الواعد ريتيش باترا، وهو أول انتاج هندي مشترك تساهم في انتاجه فرنسا وألمانيا.
وتدور أحداث فيلم “علبة الغذاء” في مدينة مومباي والتي تشتمل على عدة مجتمعات منها ال (داباوالا) والذي يتكون من 5 آلاف (دابا) أو عامل توصيل علب الغذاء، ومن هذا المنطلق يستلم رجل أرمل في خريف العمر يدعى ساجان (عرفان خان) عن طريق الخطأ إحدى تلك العلب وتدق في عينه طبول الحياة من جديد، ويبدأ في مراسلة إيلا (نيمرات كاور) بذات الوسيلة، وتنشأ بينهما علاقة إنسانية تعوضهما عما فقداه في حياتهما. وتصف حياتهما وما عاناه كلا منهما طيلة رحلتهما بدون ونيس يوهج مهجتيهما.
وتتعد اللوحات الصادقة لألوان شعورية في الفيلم، والتي تتضمن الحب والوحدة الممزوجة بالفرح والحزن والضحك، والتي تأخذنا في رحلة إنسانية عميقة نحو موضوع مختلف تشتهر به الهند، وتحديدا مدينة مومباي، وهي مهنة نقل صناديق الغداء من مكان إلى آخر أثناء العمل، والتي يمتهنها أكثر من 5000 عامل، وتمتاز بدقة عالية بحيث لا يخطئ الصندوق هدفه إلا فيما ندر، وهذه المهنة التي يصل عمرها إلى 120 سنة تضفي نكهة المنزل في مكان العمل، حيث تقوم الزوجات بإعداد الغداء لأزواجهن العاملين، ويضعنه في صندوق مكون من طبقات ليذهب ساخنا إلى الأزواج الموظفين بواسطة عمال متخصصين، لينتقل فيها الصندوق من دراجة هوائية، إلى باص إلى قطار، إلى دراجة نارية إلى الجهة المعنية لتبدو هذه الرحلة بحد ذاتها عملية طبخ أخرى تمتاز بدقتها الشديدة.
“إلا” نمرات كاور، امرأة متزوجة لديها طفل من زوج بارد، مشغول، مهمل لواجباته الأسرية إلى حد ما، تقوم يوميا بالطبخ لزوجها، ولديها جارة مسنة تعيش في الطابق العلوي لشقتها، وتكاد تكون الأنيس الوحيد لها أثناء عزلتها اليومية في المنزل، والجارة الثرثارة تدلق الحبل إليها مزودة إياها بحاجيات الطبخ، وفي أحيان كثيرة، تطلب منها بضائع المنزل، ولا نرى الجارة إطلاقا خلال الفيلم، ولكن ما نحفظه عن قلب هو صوتها وكلماتها المضحكة، وهذا الحبل الذي هو وسيلة التواصل مع الزوجة، وتنقلب موازين الحكاية تماما عندما يخطئ صندوق “إلا” هدفه، ليذهب إلى “سجان” عرفان خان، موظف على وشك التقاعد، وحيد بعد وفاة زوجته، وعادة يستقبل صندوقه من مطعمٍ رخيص حيث يقيم، وهذه المرة يجد على مكتبه صندوقا مغلفا بغطاء أخضر، وعندما يفتحه في وقت الغداء يجد أكثر من صنف طعام، يتذوّقه ليجده شهيا ومصنوعا بنفس مختلف، ويجهز عليه تماما.
يعود الصندوق إلى الزوجة التي تندهش لعدم احتوائه على بقايا طعام. هذه الفرحة الكبيرة تشي لها بقبول من الزوج ورضاء قليل، وتعتقد أنه من خلال الطبخ يمكنها لفت نظر زوجها، وتذويب الجليد في علاقتهما الزوجية الفاترة، وعندما يعود الزوج، وتسأله عن طبخة اليوم، تكتشف بأنه أكل طبخة غير التي صنعتها، وأن هناك خطأ ما قد وقع، وتصنع “إلا” في اليوم التالي وجبة شهية أخرى، وترفق في الصندوق رسالة إلى الشخص الآخر بأن عليه أن يشكرها على الأقل لإطعامه، ويتلقى “سجان” الصندوق، ويقرأ الرسالة، ولكن يرد بلغة جافة بأن الطعام شهي لكنه مالح، ويصبح الصندوق اليومي الذي يفوح برائحة طعام شهية أداة لنقل ما يغذي وأيضا ما يغذي المشاعر عن طريق الرسائل الساخنة التي تبوح بلوعة الوحدة كل على طريقته.
هي تجد منفذا جديدا غير حبل الجارة، فتبدأ في سرد حكاياتها اليومية وشكواها من الزوج إلى شخص غريب لا يفضحها. فيما يجد هو صوت الأنثى الذي يفتقده، ولمسة حنونة كانت في يوم ما قريبة إلى قلبه؛ فأصبح يجد في الحياة متنفسا، خاصة وهو الذي سيترك عمله بعد حين.
وفي إحدى رسائله إليها، يبوح فيها عن وجعه الحياتي، يقول: “قضيت حياتي واقفا في القطارات، واليوم حاولت أن أحجز حفره لقبري، فلم أجد واحدة عمودية، حتى في مماتي يبدو أنني سأموت واقفا”.
“مومباي” المدينة الصاخبة سحقت أحلامه، وسرقت محبيه، يرغب في أن يرجع إلى قريته، ولكن “إلا” المرأة الكاملة تعيد إليه نسائم الروح، وترجعه إلى صباه حينما تطلب منه أن تقابله. عندها، يبتسم على غير عادته، يحلق ذقنه المسمارية، ويزرع آلاف الاحتمالات في مخيلته، وعندما يصل إلى المقهى الذي حددته للقاء، يراقبها من بعيد، تشرب كوبا من الماء، يهاب أن يذهب إليها، هي المرأة الشابة، وهو الرجل المتقاعد المسن. يراقبها كثيرا، وهي تنتظر أكثر، لا يجرؤ على اللقاء المباشر، يكتب رسالة أخيرة، متيقنا أن صندوق الطعام هي وسيلته الآمنة للحفاظ عليها وعليه.