إذا درس عدم التسامح في أمر المعتقد من الوجهة العقلية وحدها بدا شيئا ثقيلا لايطاق، وأما إذا نظر إليه من الوجهة العملية فإنه لا يكون كذلك؛ لأن الرغبة في الاستقلالالذي يتخلص به المرء من سلطان المعتقد العام أمر شاذ، وكل يتحمل استعباد البيئةالاجتماعية المحددة للاستقلال الشخصي من غير أن يتظلم، وفي الغالب لا يشعر الإنسانبذلك الاستعباد، ولا بد له في البداءة من التحرر من ربقة البيئة – كأن يعيش منزويا- لكي يصبح حرا حقيقيا.وكل ما يمكن المرء أن يناله من الاستقلال هو أن يقدر أحيانا على مقاومة مايشيع بين الناس من تلقين شامل، وبذلك يمتاز من أفراد زمرته الذين يتبعون ما يطرأعلى هذه الزمرة من معتقدات وآراء وأوهام كالهشيم الذي تذروه الرياح.وصفوة الناس القليلة هي وحدها ذات آراء شخصية في بعض الأحيان، وإلى هذهالصفوة العالية يعود فضل الإتيان بمبتكرات الحضارة، ولا نتمنى زيادة عددها كثيرا؛ لأنه لما كان المجتمع لا يقدر على ملاءمة مبتكرات متتابعة صادرة عن صفوة كثيرة
العدد، فإنه يقع في الفوضى بعد ظهور صفوة كبيرة، فالثبات الضروري لبقاء المجتمع
قد تم أمره بفعل جماهير الناس ذوي النفوس البطيئة القليلة الذكاء التي تقودها البيئة
والتقاليد.
فمن المفيد أن تكون أكثرية المجتمع مؤلفة من متوسطي العقل الذين لا رائد لهم
سوى ما في البيئة من آراء ومعتقدات عامة، ومن المفيد أيضا أن تكون الآراء العامة
قليلة التسامح؛ إذ الخوف من انتقاد الآخرين هو أحد الأسس الأخلاقية المتينة، ويكون
التوسط في العقل أكثر فائدة للأمة؛ إذا اجتمع مع بعض المزايا الخلقية، وقد اطلعت إنكلترا على ذلك بغريزتها، فبقيت على رغم كونها من أكثر بلاد العالم حرية تمقت كلفكر متطرف.