صناعة الأعداء
أذكر حين كنا تلاميذ صغارا في المدرسة الابتدائية، نتكدس في فصول يضم الواحد منها خمسين تلميذا أو أكثر، على أقل تقدير، كان البعض منا ينتظر يوم الإعلان عن نتائج الامتحانات السنوية، وفي الغالب أولئك الكسإلى العاطلون عن أي موهبة أو رغبة في دراسة قد تؤازر مصيرهم في المستقبل. كانوا ينتظرون بعصي مدفونة بالقرب من المدرسة، حتى إذا ما انتهى إعلان النتائج، وظهرت أسماء المتفوقين، طاردوهم في الطرق، ضربوهم بالعصي، وركلوهم بالأحذية، في طقوس كانت عادية للغاية، يتفرج عليها التلاميذ جميعا، ولا يفصحون عن مرتكبيها إن وصل الأمر إلى المستشفى، أو إدارة المدرسة. ولو نظرنا لمصائر من كانوا يفعلون ذلك في مدرستي، لعثرنا على مصائر قاتمة فعلا لكثير منهم، بعكس الآخرين الذين أشرقت مصائرهم بشدة.
في الواقع كان أولئك المتفوقون الأذكياء، ومن دون أن يدروا قد اخترعوا لهم أعداء من الوسط نفسه الذي يعيشون فيه، ويمنح فرص اقتناص المستقبل للجميع بلا تمييز، ومن المفترض أن يحاول كل من منحت له الفرصة، الاستفادة منها، لا تحويل البيئة إلى صراع غير إنساني، سينجو منه الضحية، لكن الجاني هو الذي لن ينجو.
لو طبقنا تلك الطقوس القديمة، التي من المفترض أنها انقرضت الآن بتطور العملية التعليمية نفسها، وصعوبة حتى تسجيل طفل ليتعلم، ناهيك عن فرصة ابتكار الغل لأحد، لو طبقناها على مجال الإبداع، أي إبداع إنساني، كتابة، غناء، تمثيلا وغيره، لعثرنا على الأبجدية نفسها، موهوبين نشيطين، صيادين للهم الإنساني، وينسجون حريرهم في صمت بلا ترقب لمكافأة من أي نوع، وآخرين بلا أي موهبة أو نشاط ذهني وقاد، يدفنون عصي الضرب المعنوي، في داخل نفوسهم، ليستخدموها في أي وقت في محاولة القضاء على من تفوقوا. هنا أيضا المبدع، ومن دون أن يدري أو يفكر في أي شيء، قام بصناعة أعداء لن يتركوه يبدع، ولن ينجو إلا إذا ابتعد بحاضره ومستقبله عن السكك التي يسلكها هؤلاء، أو لديه خيار أن يصمد ويقاتل، وغالبا ما يفعل.
في الماضي، حين لم يكن هنالك عالم افتراضي، ينتهك خصوصية المبدعين، ويستدرجهم للإحاطة بكل ما ينتج من عصي مرفوعة لاقتناصهم، كانت المقاهي المنتشرة بكثرة، في المدن، هي من يرعى الإبداع وضده، من يرعى الأفكار الخصبة الجديدة، والأفكار القديمة المستهلكة، من يمنح فسحة من الوقت لمبدع أخاذ، أن يحكي ويبهر، و الفسحة نفسها لآخر متأخر جدا، لا يستطيع أن يخفي عصا العداوة التي سيجلد بها.
كنا نجلس في تلك المقاهي، نستمع للجمال وضد الجمال، معا، ولكن المبهر في تلك الحقبة، هي أن كل ما يقال، يذوب تماما في مكانه، فلا فضاء ثرثار، وله ذاكرة، تحتفظ بغل ربما فاض من أحد في لحظة ضعف، وانتهى.
من وسائل صناعة الأعداء المهمة، غير الوجود النشيط، والصيت العالي، والجمهور العريض لمبدع ما، مسألة أن يكون محكما في جائزة، ينتظرها الناس ويحلمون بعائدها المادي والمعنوي، المبدع المحكم هنا يتبع أولا معايير الإبداع التي يعرفها، ويحاول تطبيقها كلها، أو بعضها على العمل المعروض عليه من أجل أن يقوم بتقييمه، وثانيا إن نجح العمل وتعدى تلك المعايير، يأتي دور التذوق الشخصي، وهذا شيء لا يمكن التخلص منه، وبالتالي ربما تظلم بعض الأعمال، ولكن في الغالب يكون المبدع المحكم قد أدى دوره بكفاءة، وليس من المفروض أن يلومه أحد. طبعا أتحدث عن الطرح المثالي لعملية التحكيم، ويوجد بالطبع طرح غير مثالي حين تضم لجان ما، محكمين غير جديرين أن يحكموا. وحين تظهر نتائج الجوائز أيضا، يفاجأ المبدع المحكم أنه وبعدم ترشيحه لأعمال معينة لم ترق للمستوى، قد صنع أعداء جددا، لم يكن في باله أن يصنعهم على الإطلاق.. وأيضا سيجد العصي المدفونة بالقرب من فضاء إبداعه، جاهزة لجلده وإقصائه.
بالنسبة للكتابة القصصية والروائية، خاصة، توجد وسيلة منتشرة جدا، يمكن بواسطتها صناعة مئات الأعداء، خاصة إن كان المبدع متوفرا في أماكن من السهل العثور عليه فيها، مثل وسائل التواصل الاجتماعي.
هنا يتلقى الكاتب الذي تعرض لعداء التلاميذ في الماضي، وعداء مجايليه والذين سبقوه، وأتوا بعده، ونجا رغم ذلك، يتلقى مخطوطات كثيرة وبشكل شبه يومي، من أعمال أنجزها شباب، ويطمحون أن يحققوا بها نصرا ماديا ومعنويا في مستقبل الكتابة. هذا شيء إيجابي لا غبار عليه، أن يبدع الإنسان ويمتلك الثقة في إبداعه لدرجة أن يرسله إلى أحدهم من أجل قراءته وتقديمه، لكن من غير الممكن في مثل ذلك الطرح، هو أن الكاتب المتلقي للمخطوطات يرزح تحت ضغوط كثيرة، لا تمنحه فرصة لقراءة عمل جيد كان أو غير جيد، وإن قرأ، لا يجد فرصة أن يكتب شيئا مشجعا. توجد وظيفة رسمية في عالم لا تعتبر الكتابة فيه وظيفة، ولن يأتي يوم تصبح فيه كذلك. توجد أسرة لها احتياجاتها، وثمة وقت من المفترض أن يخصص لها. توجد التزامات كتابية، تجاه جهات صحافية، وفي النهاية يوجد وقت الإبداع نفسه لواحد، ابتدأ تلك السكة وما زال فيها، ومع الأسف توجد أربع وعشرون ساعة فقط في اليوم.
الذي يحدث أن الكاتب المتلقي، ينهار عند الكاتب المرسل ببساطة شديدة، إن لم يستطع أن يفعل شيئا تجاه مخطوط ينتظر. وتظهر العصا المدفونة سريعا، ليقال: محاربة الأجيال الشابة، عدم إعطاء فرصة، تكبر.. غرور.. هكذا.
أذكر في بداياتي أن سلمت مخطوطا لرواية لي لكاتب راسخ في الكتابة، وانتظرته طويلا ولم يرد عليّ، وعرفت بالتزاماته كلها، ولم ألمه، وحين صدرت الرواية، سارع هو بقراءتها وأرسل لي رأيا ليس إيجابيا تماما، لكني ما زلت أعتز به. ولا أذكر أن ذلك الكاتب دخل عندي في الرف المخصص في الذهن، لصناعة الأعداء.
لذلك وحتى يكون الإبداع نقيا، ومحترما من الناس، علينا تنقية قلوبنا جيدا ونحن نكتب وننشر، الإبداع من المفترض أن يظل مسالما بلا عداوة أو أعداء.
كاتب سوداني
أمير تاج السر