أمي التي تحتاجُ أكثرَ من حياةْ
أمي التي تبكي إذا ضحِكَتْ
سيلزمُها المزيدُ من الحياةْ
لتعيشَ أعمارَ الذين مضَوا
وكانَ طريقُهم من قلبِها
يمتدُّ قطْراتٍ إلى بحرِ المماتْ
أمي التي عن بيتنا المحتلِّ
يفصلُها الرمادُ..
ورهبةُ المجهولِ إذْ يقتاتُ وردَ الذكرياتْ
سأقولُ عن أمي كلاماً واضحاً لن تفهموهْ:
أمي لها عينانِ زرقاوانِ
مثلُ سحابتينِ..
تخبّئان الماءَ من زمنٍ ربيعيٍّ إلى زمنٍ مواتْ
ولها بشاشةُ مريمَ العذراءِ
حين دعاؤها..
ينسابُ في قلبي حناناً دافئاً
ويضيءُ في ليلي شموعاً للصلاةْ
أمي لها كفّانِ واسعتانِ أكبرُ من يديَّ
تمسِّدانِ الحزنَ عن روحي فيغفو
تغسلانِ القلبَ من آثامهِ
وتعمّدانِ الطفلَ (يبقى الاِبنُ طفلاً) في سريرِ الهدهداتْ
أمي تفتّشُ عن زمانٍ ضاعَ منها
يومَ كانتْ وردةً قطَفَتْ أبي
وسقتْهُ خمرَ الحبِّ
ممزوجاً بماءِ الأمنياتْ
أمي تفتّشُ عنهُ –أعني والدي–
في صوتهِ المحفورِ في الجدرانِ
في أوراقهِ البيضاءِ يكتبُها الغبارُ
وفي سجائرِهِ التي لم تنطفئْ
إلاّ لتشعلَ بيدراً من ذكرياتْ
لتعيشَ عمراً ضائعاً
عشناهُ نحن صغارُها فيها
سَرَقْنا الوقتَ من ساعاتِها
– سهواً –
خطفْنا الصوتَ من ضحكاتِها
زرعْنا الهمَّ في أفكارها
وسهواً بعثرَتْنا الريحُ في كلِّ الجهاتْ
تفصلُها متاريسُ الطغاةْ
تبكي وتضحكُ..
كالعروسِ على مشارفِ عُرسِها
ويزيدُها الألمُ احتراقاً بالندى
لتشفَّ مثل سحابةٍ من أغنياتْ
أمي.. سنرجعُ بيتنا
المَغزولَ من أهدابِنا
حلْماً حريرياً،
سنرجعُ بيتنا
لنعيشَ عمراً ضائعاً
لنعيشَ..
إنْ بقيتْ حياةْ
* شاعر سوري
عبد الكريم بدرخان