جوليان روزفلدت عن فيلمه الثوري “مانيفستو” لا نزال نسمح لمحتقري الرأي بغسل دماغنا!

جوليان روزفلدت عن فيلمه الثوري “مانيفستو”: لا نزال نسمح لمحتقري الرأي بغسل دماغنا!

جوليان روزفلدت عن فيلمه الثوري 'مانيفستو'.. لا نزال نسمح لمحتقري الرأي بغسل دماغنا!

“مانيفستو” تجربة فيلمية إستثنائية من إخراج الألماني جوليان روزفلدت، فنّان معاصر ذاع صيته في معارض العالم. في فيلمه هنا، جمع نصوصاً فنية تأسيسية من القرن العشرين ليخرج بها إلى عالمنا الحالي. عمل ثائر، في الشكل والمضمون، يتمرّد على القوالب الفنية الجاهزة، أسند فيه روزفلدت كلّ الأدوار إلى كايت بلانشيت التي تملأ الشاشة من الجنريك إلى الجنريك. افتُتحت عروض الفيلم في مهرجان ساندانس الأميركي مطلع السنة، لكننا شاهدناه بالتزامن معه في الدورة الأخيرة من روتردام، حيث أجرينا المقابلة الآتية مع مخرجه.
يستخرج روزفلدت النصوص من سياقها المرحلي ليموضعها في سياق آخر. الدادائية تصبح مرثية لمراسم دفن، في حين قواعد ال”دوغما ٩٥” تُستعاد كمادة سخرية مبطّنة في أحد الصفوف الدراسية، فيُستدرج النصّ الستيناتي الذي وضعه كلايز أولدنبورغ “أنا أنتصر لفنّ…”، إلى مائدة عائلة تستعدّ لتناول الغداء. يحفل “مانيفستو” بالكثير من المعالجات العصرية لأفكار نبتت في القرن الماضي، إلا ان صداها لا يزال ماثلاً بشكل آو بآخر. من الأكثر ثورية إلى الأكثر ظرافةً وطوباوية، يؤكد الفيلم ان الأفكار التي تمتلك رصيداً من الصدق والنبوءة، لا تموت، إنما تتحوّل، ليستمرّ تأثيرها فينا، ولتصبح محملة بمعنى الزمن، وبمعانٍ اخرى، جديدة لم نكن ندركها. يعرف روزفلدت كيف يجعل كلّ هذه الخلطة البصرية، حيّة، مرغوبة، متصّلة بالواقع، تخاطب العقل والعين في لقطة بانورامية واحدة. باعتماد كبير على ضوء مدير التصوير كريستوف كراوس، يرمينا الفيلم في جلسة تنويمية، تتجاوز خلالها النصوص كاراكتيرها الأدبي الشفهي. “مانيفستو” حقل تجارب فنية، فضاء حرّ نرى فيه إمكان إعادة اكتشاف الجماليات بالتزامن مع ادراكنا الجديد ووعينا المعاصر.
ما مدى التقارب بين التجهيز والفيلم؟
الفيلم والتجهيز مادة واحدة. لكن مادة التجهيز موزَّعة على 12 شاشة، لا شاشة واحدة، وهناك مانيفستو على كلّ واحدة منها. هناك أيضاً طبعة من 13 شاشة، عُرضت فقط في مكان واحد. كلّ مانيفستو يدوم 10 دقائق و30 ثانية، ما يعني انك إذا جمعتها كلها بعضها مع بعض، فيصبح طول التجهيز أطول من طول الفيلم. يمكنك الوصول إلى الصفحة الالكترونية عبر البحث عن كلمتَي “تجهيز” و”مانيفستو” في “غوغل”. التجهيز يدخلك في دهاليز بصرية، أقمناه في مدن عدة: ملبورن، سيدني، برلين، هانوفر، أثينا، وسيستقر قريباً في كلّ من أمستردام وموسكو وباريس ومونتريال. حالياً يُعرض في نيويورك، وكان له الاستعراض الأضحم من حيث المساحة التي احتلّها.
جوليان روزفلدت في مهرجان روتردام (تصوير ه. ح.).
اذاً، كانت فكرة التجهيز سابقة للفيلم ومنفصلة عنه تماماً.
نعم. في الأساس، وافقت كايت بلانشيت على أن تشارك في التجهيز. إلا أنه من أجل تمويله، كان علينا إقناع جهات معينة، كقنوات تلفزيونية ألمانية تدعم الفنّ. القائمون عليها كانوا يريدون النسخة الفيلمية. فاقترحتُ على كايت أن نقوم بالتجهيز ولكن أيضاً أن نخرج الفيلم. فاشتغلنا على العملين في وقت واحد. باشرنا مونتاج الفيلم فقط بعد عرض التجهيز.
مدهشةٌ الأماكن التي صوَّرتَ فيها. هل أيٌّ منها كان مصدر وحي لاختيار النصوص؟
الأماكن اضطلعت بدور بارز عندي. يستهويني النظر إليها. أحبّها كشيء لا يُمكن التعرّف إليه بسهولة. كمُشاهد، عليك أن تتكيّف وتجتهد قليلاً، كونك لا تعرف بالضبط ما المكان الذي أجرّك إليه. وفي حال مماثلة، يزداد الجهد الذي يبذله المتلقي. قرأتُ مئات البيانات التأسيسية، ثم خضتُ عملية كولاج. كلّ هذه البيانات الفنية وليدة القرن العشرين. لم أكتب أيّاً منها، اكتفيتُ بصوغها وإعادة موضعتها في سياق عام. استندتُ إلى نحو 60 نصّاً تحوّلت إلى هذا الكولاج من النصوص، كلّ منها يتعلّق بتيار فني وُلد في القرن العشرين. هناك مثلاً ال”دوغما” الذي يحلّ في مشهد المدرسة، في حين المانيفستو الذي نراه في مشهد حرق النفايات يستند إلى نصّ عن الهندسة المعمارية.
البقية موزّعة بين الدادائية، والتفوقية، والسريالية، الخ. انطلاقاً من 20 بياناً عن الدادائية، صغتُ ما يُمكن تسميته “ميتا مانيفستو”، أو كولاج. في موازاة هذا كله، بدأتُ أجمع الأفكار لمَشاهد نرى فيها سيدة تقدّم مونولوغاً، فبدأ يطوف على السطح هذا الكولاج من المَشاهد والنصوص ومواقع التصوير والكاراكتيرات. أحياناً، كنت أتعقّب منطقاً فكرياً معيّناً كالمستقبلية المصحوبة بالانبهار بالحياة ذات الايقاع السريع التي يعبّر عنها عالمنا الحالي. وفي أحايين اخرى، وددتُ تشكيل صورة معاكسة للبيان، كما الحال مع مقطع البوب آرت، حيث نرى هذه العائلة المحافظة التي يتناول أفرادها الغداء بعضهم مع بعض. إذاً، كلّ مكوّن مختلف عن المكوّن الآخر، ولكن يجمع الجميع مبدأ واحد هو إظهار مقاربات مختلفة للمنهج عينه. الأمر أشبه بأن نتلقّف النصّ في حاضرنا، كي نؤديه، لا أن نقرأه فحسب. فكرة أخرى كنت أنوي تحقيقها وهي إسناد كلّ هذه النصوص التي كتبها رجال إلى سيدة، وتصويرها في كلّ هذه المواقع العصرية. هدفي تجاهل، ولو للحظة، السياق التاريخي الذي كُتبت فيه هذه النصوص، بغية قراءتها من وجهة نظر الحاضر.
“بلانشيت تظهر إهتماماً بالغاً لمعرفة كلّ شيء عن الشخصية التي تضطلع بها”.
قوة اللقطات تضعنا في حيرة، فلا نعود نعرف إذا كان علينا النظر أو الاستماع…
جيد هذا. يلائمني جداً. النصوص معقدة. ليست سهلة متابعتها، ولا أمانع إذا لم يسمع المُشاهد كل كلمة تُقال. وليس عليه ان يعرف بالضبط مَن كتب كلّ نص. يمكنه العودة والاكتشاف لاحقاً، أعتقد أن من الأفضل أن تترك الشِعر المستقبلي الذي تنتجه هذه النصوص تلقي تأثيرها عليك، فالانفعال الذي تحاصرك به الصور، ينتج منه تلقٍّ من نوع آخر، يختلف عن التلقي الذي يتكوّن في ظروف القراءة السياقية العادية أو عبر مطالعة كتب تاريخ الفنّ. الكثير من هذه النصوص طابعها رؤيوي. نصّ الافتتاحية مثلاً يعود إلى العام 1932، ولا يزال آنياً جداً، كذلك بالنسبة إلى ما كُتب عن الرأسمالية، تشعر كأنه كُتب الآن.
هل كنت تريد منذ البداية إسناد الأدوار كلها إلى كايت بلانشيت؟
هذه قصة ظريفة. في الحقيقة، إلتقينا بالمصادفة في برلين قبل ستّ سنوات. كان ذلك في متحف خلال افتتاح أحد معارضي. أتت كايت لزيارة المعرض برفقة صديق مشترك، فعرّفني إليها. هي وزوجها يديران مسرحاً في سيدني، وكون صديقي توماس أوستن يدير مسرحاً هو الآخر في برلين، فكان مجيئها إلى برلين في إطار تبادل ثقافي بين المسرحين، وصادف هذا مع مشاركتها في تصوير فيلم في العاصمة الألمانية، فجلبها توماس إلى المعرض كمفاجأة. اطلعت على عملي وصرنا نتبادل الأفكار، فنشأت بطريقة عفوية جداً رغبة في ان نعمل معاً. تطلّب مني سنتين كي أخرج بفكرة “مانيفستو”. ثم، بدأنا العمل عليه. ظللنا على تواصل طوال السنتين.
كيف تجدها كممثلة؟ أمثقفة هي؟
إلى أقصى حدّ. ذكيّة وتتمتع بالفضول. ما يجعلها خاصة. فضلاً عن موهبتها وعبقريتها التمثيلية، لديها أيضاً هذا التعاطف مع الشرط الإنساني. تحبّ البشر، وتظهر إهتماماً بالغاً لمعرفة كلّ شيء عن الشخصية التي تضطلع بها. تضع الكثير من الحدس في عملها، وهذا تكوّن لديها نتيجة التجربة. هي صاحبة نكتة أيضاً. من لا شيء اخترعت كاراكتيراً عظيماً.
هل توافق على كلّ ما جاء في هذه النصوص؟ أو لنقل: هل تجد نفسك أقرب إلى بعضها؟
أحبّها لطوباويتها وراديكاليتها، الشيئين الموجودين في كلّ النصوص. لذلك، حتى لو لم أكن موافقاً، أحبّ فيها الإدعاء والطموح والطاقة. أحبّها لأنها ليست غبية، فكلها نصوص تعبّر عن الغضب بصوت عال، مكتوبة بشكل ممتاز وذات طابع شاعري. بالنسبة لي، هذا عمل مهم كونه يأتي في هذه المرحلة بالذات ليعلّمنا أنه يسعك رفع صوتك إذا كان لديك ما تقوله. ولكن ما لدينا الآن هو صوت مرتفع لا يقول شيئاً. إنه صوت الأغبياء، مجرد صوت لا شيء خلفه.
هل تخشى عودة العالم إلى الخلف؟
التاريخ يحملنا على أمواجه. كوننا في القعر حالياً، فكلّني أمل في أن نرتقي من جديد (ضحك). لا يوجد أدنى شك عندي اننا نعبر مرحلة تتسم بأزمة التعبير عن الأفكار وأزمة التواصل بين البشر. لا نزال نسمح لمحتقري الرأي بأن يغسلوا دماغ نصف الشعب. سواء في أميركا أو تركيا أو فرنسا، وهناك النزعة نفسها في العالم كلّه، حتى في ألمانيا التي قد لا تكون في خطر كما هي حال فرنسا.
شعرتُ ببعض السخرية خلال تلاوة بعض البيانات، كمثل الحال في مشهد المدرسة (بيان دوغما 95)…
بعضهم سألني إذا كنت أتمسخر. يجب ألا ننسى ان معظم هذه النصوص كتبها فنانون في مقتبل عمرهم، عندما كانوا غادروا لتوهم بيوت أهاليهم. في ما بعد أصبحوا معروفين جداً لنصوصهم، وكوننا نعرف أعمالهم نميل إلى اعتبار كلامهم في جدية أعمالهم اللاحقة. بعضها أصبح تحفاً تنتمي إلى التراث البشري. الخفة والطرافة هنا لإبراز هذا الجانب.
بلانشيت في دور مغنية روك.
في لحظة تقول بلانشيت: The lass we understand the better is. وجدت ان هذه الجملة تأتي في اللحظة المناسبة، لأننا لا نفهم كلّ شيء (ضحك).
(إبتسامة). هذا الكلام أشبه بشعار الفيلم. هناك لحظات عدة تنطوي على شعارات، والفيلم يعبّر عنها. لا شيء أصيل: “اسرق من كلّ مكان”، هذا مبدأ جيم جارموش لصناعة فيلم، وهذا ما فعلته، فأنا حرفياً سرقتُ من كلّ مكان. إنها نوعاً ما إعادة تدوير للمعرفة.
أعجبتني حركة الكاميرا. ما مصادر وحيك بالنسبة إلى الجانب البصري؟
– إذا زرتَ موقعي الإلكتروني، فسترى أن هناك من حركات الكاميرا البطيئة الكثير الكثير. هذا مكوّن أساسي عندي، وجدتُ فيه ضالتي. أجد أن هناك إفراطاً في إستخدام المونتاج في السينما المعاصرة. إذا درستَ النحو المعمول به في السنوات ال15 الأخيرة، ترى ان الايقاع يزداد سرعة عاماً بعد عام. رأيتُ أنه من المهم مساءلة آلية السرد هذه. هل فعلاً هذه هي أفضل الطرق لسرد قصة؟ أردتُ ان أحرّك الكاميرا، لعل شيئاً غير متوقع يحصل في مسارها. هذه طريقة اخرى للتوليف. أهوى التركيز على أشياء لم تعد السينما تراها. كتلك السيدة التي تحمّص خبزها صباحاً. أشياء تعكس روتيننا اليومي. السينما الكلاسيكية التي تستند إلى السرد لا تقيم وزناً لهذا الأمر. عملي هو تفكيك كيفية صناعة السينما، أو صناعة الميثولوجيا، وتعلّمتُ ان أرى الأشياء من منظار آخر.
ثمة أيضاً تحيّة إلى كوبريك من خلال مونوليث “٢٠٠١، أوديسّا الفضاء”. هل كانت متعمدة؟
بالطبع. شيّدنا المونوليث بحجم المونوليث في فيلم كوبريك. هذا يحيلنا أيضاً على أشهر فنان تفوقي كازيمير ماليفيتش، وأشهر أعماله “الساحة السوداء”. فالمونوليث كان غمزة إليه. هناك أيضاً تحيّة إلى “الليل” لأنطونيوني: مشهد السيدتين مع الصاروخ.
هل حظي الفيلم بموازنة ضيئلة؟
– كان لنا أقل من مليون دولار لتحقيقه. هذا قليل لفيلم، وكثير لقطعة فنية (ضحك).

m2pack.biz