عندما شاهدتُ بودلير وشهرزاد في متجر صونيا ريكيال في بولفار سان جيرمان!
السيّدة صونيا ريكيال كاتبة ومصمّمة أزياء فرنسيّة مشهورة، معروفة بأناقة تصاميمها ومواهبها الفذة والطليعية.
للسيّدة ريكيال متجر شهير يوظّف المفكّرين والأدباء ويعرض كتبهم، في بولفار سان جيرمان الخالد، على مقربة من مقاهي الرصيف التاريخية هناك.
صحيح أن صونيا ريكيال قد توفيت منذ أقلّ من سنتين، لكن متجرها الفخم في البولفار صاحب الشهرة الأدبية والفكرية الذائعة الصيت في باريس، لا يزال هناك، أنيقاً، أريستوقراطياً، جذّاباً، لذيذاً، فاتناً، غاوياً، مرفّهاً، حيث تتكئ الملابس بين الكتب والرفوف الخشب.
الكلمات في المتجر، تراقص الأقمشة على وقع رائحة الخشب والبرد الرماديّ. بين قطعة ملابس وأخرى، حائط من الروايات العالميّة. بين معطف ومعطف مكتبة خشبيّة تضمّ الكلاسيكيّ من روائع الأدب الفرنسيّ والعالميّ. حتّى في حجرات المتجر الخلفيّة كتب موزّعة كيفما اتّفق بأريستوقراطيّة ورفعة.
آلاف من الكتب موضوعة هنا، برؤية سينوغرافية وجماليّة فائقة، تحرّض على القراءة وعلى شراء الملابس في الآن نفسه.
دخلتُ المتجر. رأيتُ الكتب مقيمةً في بهائها الغريب، بين الثياب التي تتباهى بكونها تلبّي آخر صرعات الموضة الباريسية.
هل يمكننا أن نشتري الكتب؟ هل يمكننا أن نلمسها؟ أن نشمّ رائحتها؟ أن نسايرها؟
البائعة التي هناك، أظنّ أنّها لم تفهم قصدي ولم تدرك أنّني لم أطرح سؤالي على سبيل المزاح. لا بدّ أنها ستخبر صديقها هذا المساء وهما يحتسيان نبيذهما الأحمر، أنّ فتاة شرقية بسيطة أرادت شراء كتاب من متجر صونيا.
دخلتُ المتجر وقلبي يكاد يقفز من مكانه. لقد أخذتني الكتب والرفوف إليها، مثلما يؤخذ امرؤ، رجلاً أكان أم امرأة، بحبّ صاعق من نظرة أولى. بقيتُ في المتجر لأكثر من ساعة. لمستُ الكتب وشممتُ رائحتها ولم أستطع الامتناع عن تأمّل البائعات الجميلات وهنّ يخطرن بقاماتهن في المتجر الكبير، كأنهن في عرضٍ لآخر منجزات الموضة.
ترى هل يخطر في بال أيٍّ منهن، سحب كتاب من أحد تلك الرفوف لقراءته في لحظات الفراغ والانتظار، أو لتقديم نصيحة أدبية إلى إحدى السيدات اللواتي يدخلن المتجر لشراء الملابس؟
رحتُ أحلم بوظيفة عند صونيا! أتراها توظّفني هنا؟ أقسم لها بأنّني لن ألمس الملابس. لن “أجعلكها”. أريد فقط أن أستلقي على الكنبة السوداء الكبيرة لأتنشّق رائحة الكتب الخشبيّة النبيذيّة. وأقرأ. وأرغّب السيدات بالقراءة.
سحرني ذلك المتجر وأخذني إلى عوالم من التخييل والحلم. رأيتني أشاهد شهرزاد وشهريار في ذلك المتجر الباريسي. يتبضّعان. رأيتهما ولم أصدّق عيني. هما آخر الأشخاص الذين توقعتُ رؤيتهم هنا.
كان شهريار جالسًا على كنبة السيّدة ريكيال السوداء الضخمة في المتجر بينما كانت شهرزاد متكئة على رفٍّ خشبيّ مهيب تتأمّل حقيبة يد وتفكّر كيف ستخبر شهريار بأنّها تريد شراء تلك الحقيبة. لن يبخل عليها ب 700 أورو. لا يمكن.
الألف ليلة وليلة بأكملها هنا. بأخبارها وعجائبها وعطور شوارع بغداد التي تحملها على صفحاتها. الألف ليلة وليلة كانت هذا الصباح في متجر السيّدة ريكيال. ولم يكن شهريار وشهرزاد وحدهما في متجر السيّدة ريكيال. فإلى جانبهما كان هناك لافونتان وسارتر وأندره جيد وكامو وستندال. رأيتُ هوغو وبودلير ومالرو. كانوا جميعهم في متجر السيّدة ريكيال الباهر والعريق، متأهبين هنا “لاستدراج” الزبائن، ولِم لا، تحريضهم على القراءة
خرجتُ من عند العزيزة صونيا وأنا عاجزة عن السيطرة على ذهولي. لقد عشقَتْ تلك المرأة الكتب عشقها الأقمشة، فقرّرتْ تزويج الشغفين في فردوس خشبيّ رائع. حسنًا يا صديقتي. أهنّئك على فكرتك الغريبة.
لو كانت السيدة صونيا ريكيال لا تزال على قيد الحياة، لكنتُ طرحتُ عليها أسئلة جمّة، من مثل هذا السؤال:
هل تعرفين أيّ شعورٍ قد يغمر بودلير وهو يكتشف أن “أزهار الشرّ”، كتابه الشعري الأثير، ملقى على طاولة قرب تلك الكنبة السوداء الرخية، وإلى جانبه قبّعة، ثمنها يفوق معاش موظّف في أكثر من نصف بلاد العالم؟!