امرأة بإحداثيات متداخلة
كنتُ قد فرغتُ للتوّ من مشاهدة فيلم السهرة في التلفاز، وعلى الرغم من أن الوقت كان متأخراً إلا أنني أحسستُ بالرغبة في تناول فنجان من القهوة وتدخين لفافة تبغ قبل أن آوي إلى الفراش. توجهتُ إلى المطبخ وما إن أضأتُ النورَ فيه حتى سمعتُ طرقاً على بابه الذي يفضي إلى حديقة منزلي. سرتِ القشعريرة ُ في أوصالي. إنها قرابة الثانية بعد منتصف الليل، وأنا أعيش في بيت ٍ منعزل ٍ وحيدة ً منعزلة ً بإرادتي، فرغم انقضاء أكثر من عشر سنوات على وجودي في الحيّ الذي أقيم فيه لم أعقد صداقة ً مع أيّ ٍ من جيراني ولم أزرهم ولم يزرني أحدٌ منهم. فمن هو الطارق؟ وفي مثل هذه الساعة المتأخرة فعلا ً؟ وأية إشاعة ستسري بين سكان الحيّ سريانَ النار في الهشيم لو شاهد أحدُهم شخصاً يطرق باب منزلي في الثانية صباحاً؟ أنا على ثقة من أن الشماتة ستسري أيضاً بينهم سريان الإشاعة نفسها إذ لا أعتقد أنّ أيّاً منهم يكنُّ لي أية مودّة مهما صغر حجمها، وهم يعتبرونني متغطرسة تأبى النزول إلى مستواهم (وهنا أستميح القارىء عذراً لأذكر أن انعزالي عنهم لم يكن مبنيّاً على أسس ٍ طبقية أو عنصرية قط، بل كلّ ما في الأمر هو أنني آثرتُ العزلة َ لأنني انطوائية بطبعي أوّلا ً، ولأن الاحتكاك بالجيران أثار العديد من المتاعب في منزلنا عندما كنتُ طفلة، مما حدا بوالدي إلى اتخاذ قرار بقطع كلّ صلة بالجيران، وحصر علاقاتنا بأقاربنا فحسب).
توجهتُ إلى الباب وسألتُ بصوت ٍ عمدتُ إلى تنظيفه من كلّ ذبذبات الارتعاش أو الارتباك:
– مَن الطارق؟
ولم أتلقّ ردّاً. أضأتُ نور الحديقة ونظرتُ من العين السحرية المثبتة على الباب. لم يكن هنالك أحد. مكثتُ في مكاني لفترة وجيزة وأصختُ السمع. كان السكونُ يغلّف المكان. تساءلتُ في قرارة نفسي إن كنتُ فعلا ً قد سمعتُ طَرْقاً على الباب أم خُيِّلَ إليّ ذلك. عدتُ أدراجي إلى موقد الغاز لأعدّ قهوتي، ولم ألبث أن سمعتُ الباب يُطرَق مرّة ً أخرى. كان نور الحديقة لا يزال مضاءً. نظرتُ من النافذة فلم أر أحداً. توجهتُ إلى الباب وسألتُ بصوت ٍ أضفى عليه الذعرُ قوّة ً:
مَن الطارق؟
ومرّة ً أخرى لم أتلقّ إجابة ً على سؤالي. نظرتُ من عين الباب السحرية فلم أجد أحداً، وهذا ما شجّعني على فتح الباب. لم يكن هنالك أحد. نظرتُ ذات اليمين وذات اليسار وتقدّمتُ بعض الشيء في الحديقة. لم يكن ثمة ما يريب. وعلى حين غرّة انصفق باب المطبخ بدُويّ ٍ أجفلني وانطفأ النور في الحديقة في الوقت نفسه، وربما نجم ذلك عن انصفاق الباب بعنف. جُنّ جنوني وارتفع منسوبُ الذعر في قلبي. ماذا أفعل؟ لا مفتاح لديّ ولا يمكنني الدخول إلى البيت الآن ولا أمتلك من القوّة البدنيّة ما يتيح لي كسر الباب. بمن أستنجد وأنا بقميص نومي الداخليّ ووسط جيران ٍ لا تجمعني بهم أواصرُ مودّة وفي ساعة متأخرة من الليل؟ ورحتُ أقرّع نفسي على غبائي وبلاهتي: لماذا فتحتُ الباب وخرجتُ إلى الحديقة؟ مرّتَيْن سألتُ ‘من الطارق؟’ ولم يجبني أحد. لو كان ثمة أحد ٌ يطرق الباب لسبب ٍ وجيه ٍ ونيّة ٍ طيبة ٍ لأجاب، أيّاً كان عذره لطرق بابي في هذه الساعة المتأخرة. مرّتَيْن نظرتُ من العين السحرية ولم أرَ أحداً. فلماذا فتحتُ الباب؟ ولماذا خرجتُ إلى الحديقة طالما أنني لم أر أحداً؟ واجتاحتني موجات ٌ من الأحاسيس المتراكبة هي مزيج ٌ من الغضب والذعر والندم والقنوط. ماذا أفعل الآن؟
وحانت مني التفاتة ٌ إلى مطبخي فَسَرَتْ قشعريرة ُ رعب ٍ في أوصالي. كانت ثمة امرأة ٌ في مطبخي. وفارَ الدمُ في عروقي واتخذتُ قراراً حانقاً وحاسماً: سأطرق الباب وسأسألها: ‘مَنْ أنتِ وكيف دخلت ِ إلى هنا؟’. ولكنْ!
إنها ترتدي قميص نومي نفسه! وحين أشاحت بوجهها جانباً زلزل الذعرُ كياني. إنها أنا بلحمي ودمي وقميص نومي وحركاتي أيضاً! كأنني أنظر إلى نفسي في المرآة. إذا كانت هي أنا، فمَنْ أنا إذن؟
وتسارعتْ نبضاتُ قلبي. ومَثُلَتْ أمامي حقيقة ٌ مُطْلَقَة: أيّاً كانت هذه المرأة، وأيّاً كنتُ أنا نفسي فإنها وسيلتي الوحيدة للدخول إلى المنزل مرّة أخرى. هُرعتُ إلى الباب وطرقْتُه. رأيتُ بدنَها من خلال زجاج النافذة يَجفل. أضاءت نور الحديقة وجاءت إلى الباب. قالت: مَن الطارق؟ واحترتُ في أمري. خشيتُ ألاّ تفتح الباب لو قلتُ مَنْ أنا، فالتزمتُ الصمت. فما كان منها إلا أن عادت إلى موقد الغاز حيث كانت تعدّ شيئاً على ما يبدو. طرقتُ الباب مرّة أخرى وعلى نحو أعنف من ذي قبل. رأيتُها تأتي إلى النافذة وتمسح الحديقة بنظرها، ومع ذلك لم ترني، ثم جاءت إلى الباب وسألتْ :مَن الطارق؟ لم أجب، ففتحت ِ الباب وتقدّمتْ إلى الحديقة في اتجاهي ومع ذلك لم ترني أيضاً لحسن الحظ. واهْتَبَلْتُها فرصة ً هي بالنسبة إليّ فرصة العمر فانطلقتُ كالقذيفة نحو المطبخ وصفقتُ الباب خلفي وأطفأتُ نور الحديقة وأوصدتُ الباب بالمزلاج، ثم عدَوْتُ إلى غرفة نومي لا ألوي على شيء. لم أعد راغبة في فنجان قهوة ولا في لفافة تبغ فلولاهما لما حدث ما حدث. أضأتُ النور في غرفة نومي فتجمّد الدمُ في عروقي: كانت هنالك مستلقية على سريري، وحين رأتني انتفضتْ من الرعب وصاحتْ في صوت يقطر ذعراً قائلة وهي ترتجف: ‘مَنْ أنتِ وكيف دخلتِ إلى هنا؟’.
*قاصة سورية مقيمة في المملكة المتحدة
راائع …
قصة جميلة، تشجيعاتي.