ظاهرة الإعلام المشهديّ عربيّا
لا شيء يبرر الافتعال، حتى ولا قول الحقيقة. تفنيد رأي الآخر بشكل منهجيّ ليس عقلا. إنه موقف مُلْتَبس حيال ما لا نجرؤ، أو لا نقْدر، على تفكيكه ونقده بشكل منطقي. وهو (التفنيد الآلي على الهواء)، على أي وجه أُخِذ، ليس برهانا، لا على صدق ما نقول ولا على حقيقته. إنه نَفْي غير متماسك لما يقوله الآخر، ولو كان فيه كثير من البلاغة. وهو خطير، مثل ركض دائريّ على مسار الآخر، ولكن باتجاه «معاكِس»، مما يحرّض سريعا على التنافر والاصطدام.
إنه انفعال لا عقلانيّ، مشٌبَع بالعواطف والسفسطة، أو هو نوع من «النِّقار» المأزوم الذي يُفعِم المتحاورين، والمشاهدين، بمقولات عبثية تشلُّ طاقة النقْد عندهم وتدفعهم، سريعا، إلى «الاستسْلام السَلْبي»، وهو، من هذا المنظور، مزلزل للعقل، بدون أن يكون عقلانيا. إعلام الصراخ و«التلاكُم اللفظيّ»، هذا، (وأحيانا الجسدي) لا يُعمِّر، وإنما يُدَمِّر. يعرض الأحداث الجليلة بشكل ساذج ومبتذل، يسلب إرادة المعرفة لدى المشاهِد بإزاحتها من الفاعلية إلى البلادة. هكذا، يتَسَلْط، بشكل فجائعي مصطنع، على نفس المشاهِد (والنفس أمّارة بالخنوع)، بعد أن يكون قد استَحْوِذ على عينيه، ومن ثمّ على قلبه. وهو، إذْ يفعل ذلك، يتصوّر أنه يُخْمِد، بهذا الفعل الملتبس، استياءه العميق من الوضع العربي الراهن، ويُنَفّس عن كربه وخيبة أمله التي لا عزاء لها. ومع أنه يخطئ في تصوُّره المخادع، هذا، إلا إنه يظلُّ يتابع، بإصرار، «تغلغله» في الفضاء العام: فضاء المشاهدين المتعطّشين إلى ما يساعدهم على الإدراك. لكنهم، ويا للمفاجأة المستمرة منذ سنوات، لا يجدون أمامهم سوى العِراك! وهو ما يجعلهم يغرقون من جديد، آسفين، في لَجَّة من «الصخب والضجيج» بلا جدوى. غاية هذا «النهج الإعلامي، الأساسية إذن، ليس تنشيط المخيلة المعرفية لدى المشاهد، وإنما تثبيطها.
بمعنى آخر، شلّ طاقة الحس النبيل لديه، وإلْهاؤه عمّا يدمِّر حاضره. وسيلته في ذلك تحويل المأساة الإنسانية العربية الهائلة إلى مماحكة تَهْويلية مفتعلة تحلّ فيها «الصيغ النظرية اللافاعلة» محل الفكر النقدي المطلوب، خاصة، عندما يطرح صانعو «المشهد» ومنَفِّذوه الأمر بشكل يكاد أن يكون عفويا، و«بريئا»، مع أنه ممنهح بدقة، ومخطط له، ومحسوب، وذلك غاية التضليل. إنه نوع من اللعب على العواطف. ونحن نعرف أن العواطف عواصف. ونهايتها السكون. منطق مَنْ، إذن، هو منطق الإعلام المشهدي، عربيا؟ ومَنْ يحرِّك خيوطه اللامرئية في هذا الفضاء اللامنطقيّ؟ هذا الفضاء الجائع لا إلى الحرية، وحسب، وإنما إلى المعرفة، قبل كل شيء! ومنْ هو المستفيد من التبسيط المخلّ بالعقل لواقع عربي صار فوق سيرياليّ؟ ألا يحق لنا أن نتساءل؟ أن نتساءل عن دور السلطات الثقافية في إعلام مثل هذا (وهي المالكة الحقيقية لوساىل التغبية والتجهيل السمعية البصرية، ولغيرها أيضا)؟ ومَنْ منا يجهل رغبتها العميقة في «رَدْم» حساسية المشاهد، وحَشْو رأسه بما ترغب هي أن يستوعبه، وعَلْفه بما تريد؟ نحن نعرف أنه لا يوجد في العالم العربي، اليوم، إعلام حر، متماسك، ذو نهج محايد ومقبول (ولو شكليا). لكن ذلك ليس عذرا لأحد، وبالخصوص «لأهل الصنعة». وهو لا يمكن أن يكون مبررا لنا، لئلاّ نقول رأينا بصراحة. وهو، كذلك، لا يعطي المصداقية للناشطين في هذا المجال الخطير، حتى وإن ادّعى بعضهم «مجابهتهم» للسلطة، وبالخصوص عندما يكون برهانهم على «حقيقة» ما يدَّعون كونهم «يخالفونها»، ويتجاوزون خطوطها الحمْر، أحيانا! فهذا الادعاء الكاذب هو التأكيد الصارخ على تواطؤ هذا الإعلام المخاتل والسيّئ النوايا. إعلام الصخب، وإقصاء أي فرصة صالحة للإدراك. وأكاد أتساءل: إدراك ماذا! في خضمّ هذا اللَّغْو العبثيّ العربيّ الهائج؟ هدف المحاورات الإنسانية، كما نتصوّر، خاصة عندما تكون مرئية من العموم، هو «إعطاء شكل ومحتوى لنشاط الكائن»، يجعله جديرا بالاحترام، ويقرِّبه من الإدراك. أمّا أن تتحوّل المحاوَرة إلى «مُهاتَرة»، وعلى رؤوس الأشهاد، كما في هذه «المحاورات المشهدية اللاسقراطية» فهذا ما لم نكن نتوقعه. «الأنا المتضخمة» لدى المشرفين عليها، وحتى لدى المتحاورين، ترفض الاندماج في «حقل المنطق» هم لا يبحثون عن حقيقة مَنْ يحاورونه، وإنما عن
«دَحْره»، وبأي وسيلة كانت! «الإلْغاء الآلي»، إذن، لكل ما يصدر عن «اللانقيض» (فهم كلهم توأم الوضع العربي البائس، ويبدون متماثلين إلى أبعد حد، خاصة عندما يريدون أن يَتَناقضوا)، هو قاعدة «اللاحوار» المعمول بها. إنه، بالأحرى، قاعدة «المبارزة الحاسمة» بينهم، ولا شيء آخر. وهو ما يذكرنا بالمبارزات التاريخية القاسية بين عبيد روما القدماء (الغلادْياتورْ) من أجل البقاء، التي كانت تنتهي دائما بالموت.
كاتب وروائي سوري