سمكة الحنين
لأني أعوم بملابسي كلَّ يوم، فقد كانوا يسمونني بالسمكة، هكذا كنت في طفولتي الغاربة، حين كنا نعيش أمام البحر، قبل أنْ يهجره الصيادون وتمتلئ الشواطئ بالفنادق والبيوت الخاصة والشركات.
انتقل بعدها والدي إلى قرية بعيدة، لا شأن لها بالبحر، ولكن اللقب أخذ يطاردني رغم ذلك، دون أنْ أعرف كيف تسرب إلى هناك، حيث غدا الجميع يلقبونني بالسمكة بعد أيام قليلة من وصولنا.
اشترى والدي بثمن تعويض الحكومة، حقلاً صغيراً، ثم استعان ببعض الناس لبناء بيت داخله، بعدها أرسل في طلبنا أنا وأمي، لم نكن حينها نائمين في الحافلة الضخمة التي تتمخض في جوفها أغراضنا القديمة، ونحن نرى حياتنا وذكرياتنا تتحول من مكان إلى آخر.
حملنا معنا كل شيء، لم نستطع أنْ نترك سوى صورة البحر، ذلك الذي كنت أعوم في مياهه كل يوم. كان ألمي شديداً حينها، وصمتي كذلك. كان الأمر شبيهاً بمن يحمل فوق رأسه شجرة من الهموم وفمه مسدود بخيوط سميكة.
وهناك رأيت الفلج* وهو يشق تفاصيل القرية. فقفزت في صفحته بكامل ملابسي، وجريت معه حيث يشاء.
تدفقت صور وذكريات جديدة لي في مياهه.
كنت أعوم وحيدة، حتى حين بدأت أكبر، وتفاحتاي تكبران في صدري، لم أتورع عن السباحة وحيدة، تعب أبواي من إقناعي بأنني أصبحت كبيرة الآن، فقد كنت أصاب بالحمى ويقشعر جسدي، ما إنْ أفكر بأنني سأهجر الماء يوماً.
أبي لم يكن من النوع الغاضب، ولكني أشعر به، منذ أنْ ترك البحر والصيد في مياهه، وهو يعيش كالباحث عن شيء لاعرفه، فخطواته غدت مأسورة بين البيت والمسجد والسبلة* حيث يجتمع الكثير من الناس، يتحدثون ويتهامسون، وتموج بهدوء كخريطة ترسمها ريح شيطانية، النميمة والصمت الثقيل والنظرات الحارقة.
وكان أبي يشعر بغربة في مكان لا يعنيه.
أخبرني مرة، بأنَّ الناس يتهامسون علي، بأنني أسبح وحيدة في الفلج، وأمرني بشدة أنْ أتوقف عن الخروج.
خذي معك أمك، ولا تخرجي إلا في الليل.
كان حزني يصطرع في جسدي كحبال ثخينة، قطعتها بغضب خافت، ورفضت بشدة سماع ذلك الكلام من أبي، ولكنه بدا صارماً وهو يسنن نظرة مرتبكة نحوي، ويحولها جريحة إلى أمي، كان يستجدي مساعدتها في حمل عبء يثقل كاهله.
زارتني الحمى ليلتها، وارتفعت حرارة جسدي، وأطبق الصمت علي.
وأمي التي تهجس عذابي، ربتت على رأسي طوال الليل ومسحت وجهي وجبيني حتى نمت.
وتحت غطاء الظلام، كانت المرة الأولى التي أعوم فيها وقد أزحت الخرق التي تطوق جسدي، فاستقبلت الماء عارية كسمكة، لم أكن خائفة فعينا أمي كانتا تضيئان محيطي الموحش من بعيد.
وحين كبرت لم يأتِ أحد لخطبتي، فنحن غرباء في هذه القرية، وقد تشتت شملنا حين تركنا البحر، لذلك أسماني الناس بالسمكة العانس.
وكان والداي يريان مصيري يتمدد أمام أعينهما العاجزة، قلت لهما لا تحفلا بذلك، إني عشقت الماء منذ أمد وحسمت أمري.
وذات يوم قال لي والدي ‘اذهبي الى الفلج في أي وقت تشائين’، كانت فرحتي تخفق كأجنحة نبتت فجأة بين أضلعي. عدوت بكامل أنفاسي، ونثرت جسدي في الماء، غطست رأسي وضفيرتي وقطع الفضة، وتركت الفلج يحملني حيث يشاء.
وحين ماتت أمي، كان حزن والدي يطير بعيداً ليملأ الحقول المختفية في أحشاء الليل، لم تلتقِ أعيننا، يكلمني ووجهه شائح عني، وارتسمت نظرة غامضة في عينيه والتصقت فيهما إلى الأبد، كنت أحس بالحزن الذي كان يعوم والدي في بركته، فابنته الوحيدة عانس وهو يعيش وحيداً معها.
إلى أنْ ظهر فجأة ذلك الذي لم أكن أحسب له يوماً:
لقد مضت أشهر طويلة، ولم يزر المطر قريتنا، والفلج بدأ ماؤه يقل، ويتوزع بين الحقول العطشى قبل أنْ يصل إلينا.
شعرت حينها باقتراب نهايتي، وأنَّ مهمتي في الحياة توقفت عند ذلك المصير، وطريقي احترق تماماً، وكسا السواد روحي، وسكنني إحساس مَن ترملت قبل زواجها.
والدي الذي كان يقرأ حالتي من بعيد، فاجأني ذات يوم بكيس من خيوط متموجة الألوان كان يحمله في يده. التقت أعيننا حينها وهو يطلب مني أنْ أصنع من الخيوط عرائس تساعدنا على النسيان. ثم مات والدي بعد أيام من ذلك، وبيتنا امتلأ بالعرائس واللعب.
وفي صباحات الأعياد، كنت أحمل العرائس في جوف صحن فوق رأسي، كانت فرحتي حينها تشبه طائراً يعانق سحابة بيضاء هبطت قريباً من عشه، فكنت أوزع كل العرائس التي تطفو خفيفةً بين يدي.
ولم يعد بعدها أحد يطلق علي أي لقب.
وأصبح الأطفال لا يحتملون انتظار الأعياد، فكانوا يأتون إلى بيتي كل يوم، وفي جميع الأوقات.
ذات صباح حملت أشيائي واتجهت ناحية الجبل، وتحت ظل صخرة هناك، شرعت أصنع بصمت عرائسي من الخيوط وقطع الزور، ولأنه لا يمكن أنْ أعرف سبب موتي، فإنَّ كل ما أتذكره:
كنت منحنية أنسج نولي تحت خيوط القمر، حين سمعت دوي صخرة ورائي.
* السبلة: المجلس الكبير
* الفلج: نهير صغير ينبجس من الجبال ويشق القرى العمانية