زياد الرحباني وفيلمه الأمريكي المستعاد
صالة الدخول الفسيحة في «سينما سيتي» كانت قد استعدّت لعرض مسرحية زياد الرحباني «فيلم أمريكي طويل» عملا سينمائيا. قرأنا اسم زياد واسم مسرحيته مُضاءين في الخارج، باللون الأحمر القويّ. وفي الداخل أزيلت ملصقات الأفلام التي تعرضها صالات سينما سيتي ليحل محلها الملصق الخاص ب»فيلم أمريكي طويل»، وحده مكرّرا في حوالى عشر نسخ ستضاف إليها عشرات بل مئات النسخ الأخرى ستوزّع على الخارجين من الصالة بعد انتهاء الفيلم.
في الداخل كان الموظفون يستقبلون القادمين استقبالا احتفاليا، أما الحضور فأكثرهم من المدعوّين، وهذا ما يفسّر بقاء الصفوف القليلة الأولى من الصالة خالية. كان عرضا أوليا سبق العرض التجاري الذي سيبدأ بعد نحو أسبوعين من تلك الأمسية. الحاضرون هم من أهل الفن ومن الإعلاميين على الأغلب، وبعض هؤلاء كان أتيح له أن يشاهد المسرحية جارية على الخشبة قبل ما يزيد عن الخمسة والثلاثين عاما. الرجل الجالس إلى جانبي كان من هؤلاء، وهو أقبل على الحضور برغبة عارمة ترجع ربما إلى رغبته في استعادة ما كان أمتعه في ذلك الزمن. لم يتحسب لإمكان تغيّر ذائقته بين 1980 والآن حيث هو في 2016، ذاك أن صورة زياد وحضوره لم يُفوَّتا على الرغم من طول تلك المدّة. فزياد ظلّ حاضرا في تلك السنوات كلّها. ظلّ ظهوره مترقّبا على الدوام، سواء تعلّق ذلك بفنّه أو بشخصه، أو بكليهما معا طالما أن الفصل بينهما، في ما خصّه هو زياد الرحباني، صعب. إنه هو كلّه، مجتمعة فيه مسرحياته وأغانيه وشخصه وطريقته في الكلام التي أصابت اللبنانيين بعدواها فاعتمدوها أسلوبا وطريقة كلما رغبوا في تناول عيشهم بالسخرية.
جاري، الجالس في المقعد الملاصق لمقعدي، كان ينتظر القفشات لكي يرتفع ضحكه، وهو راح يحرّض رفيقه الجالس إلى يمينه على الانتباه إلى ما يسمع. وهذا الأخير كان قليل الاستجابة، ربما بسبب ابتعاده الطويل عن لبنان كما فهمت، وغيابه عما اشترك فيه اللبنانيون في تلك السنوات الماضية الكثيرة. كان قد جاء إلى السينما ظانا أنه إزاء عمل سينمائي قائم بذاته، غير معنيّ بتلك الاستعادة الاحتفالية التي استجلبت فضول الجميع، ابتداء من «بالنسبة لبكرا شو» (وهي مسرحية زياد الأخرى التي سبق تحويلها فيلما سينمائيا). في أحيان كان هذا يردّ على ما يقوله صاحبه باللامبالاة، تلك التي تصاعدت بعد حين لتتحوّل إلى احتجاج هامس يقول فيه إنه جيء به إلى فيلم يُضجره. وهو ما لبث أن غادر بعد نفاد صبره مواعدا صاحبه أن يلاقيه في الخارج.
الفيلم صُنع ليتاح لمن شاهدوا المسرحية أن يعودوا إلى مشاهدتها، أو تذكّرها، مرّة ثانية، وإذا كان ينبغي إضافة آخرين إلى الاهتمام بالفيلم فهم أولئك الذين لم ينقطعوا عن زياد الرحباني الذي أظهر قدرة متميّزة على تجديد جمهوره. فمسرحياته ما تزال حاضرة، لكن بالصوت وحده تذيعها الإذاعات قطعا متفرّقة. وغالبا ما لا يهتم السامع بردّ ما يسمعه إلى المسرحية التي اقتُطع منها فهو يسمع زياد مخلوطا وممزوجا ومضيفا إلى فنه المسرحي مشاهد من فنه الشخصي يظهره في المقابلات التلفزيونية.
أما الدليل على بقاء «فيلم أمريكي طويل» في ذاكرة من أتوا ليشاهدوها فيلما فيلاحَظ من التعليقات التي كانت تصدر من جمهور الصالة، وفي أحيان من الضحك المتردّد الذي لا يصل إلى حد القهقهة. في ذلك الزمن، في صالة المسرح، كان الضحك والتصفيق مستمرّين حتى انتهاء العرض. جاري، الجالس بجواري هنا في السينما، سألني إن كنت قد شاهدت المسرحية في أوانها، ليعود ويقول لي، ونحن في المقاطع الأخيرة من فيلمها، أنه أُحبط. وهو على أي حال لم يُرجع ذلك إلى سوء السماع والمشاهدة، على الرغم من الجهد الكبير الذي بُذل لترميم الشريط القديم غير الاحترافي، بل إلى أن ما كان حفظه هو أكثر إشراقا وقوة مما شاهده لتوّه. وقد أدركت ماذا يعنيه تماما، فذاكرتي التي بقيت حافظة لجمل من المسرحية – الفيلم كانت قد أحاطت قفشات مثل «لبنان الحرب الأهلية صار لحم بعجين»، أو «أحداث حوادث لبنانية» أو «كلهن محمودات» بالقوة التي صدرت فيها بذلك الزمن. أما هنا، وقد أعيدت إلى الذاكرة كما هي، لكن مع تغيّر الزمان والمكان، فبدت أقلّ وقعا مما كانت في مُشاهدتها الأولى، ثم أن الفيلم الذي أُعلن في مقدّمته أن ما تحمله المسرحية لا يقتصر على زمن واحد، طالما أن مشكلات لبنان باقية لا تحول ولا تزول، جعلنا نتذكّر كيف أن كثيرا من الشخصيات آنذاك، في مطالع الثمانينيات، لم تصل إلى هنا حيث سنة 2016. من هذه مثلا نموذج الشاب اليساري المهموم بمكافحة الإمبريالية، وكذلك الشاب المكتشف لتوّه أن المسلمين (المحمودات) هم في كل مكان حوله، ثم ذاك الثالث المهووس بالبحث عن سبب للمشكلة التي أودت بلبنان إلى الحرب. لكن الأهم بين ما لم يعد موجودا هو القابلية لتناول كل شيء بالفكاهة والضحك. ولأولئك الذين مثل جاري ومثلي كان أكثر ما يجذب النظر والتفكير هو ما خلّفه الزمن على كلام الممثلين، كما على وجوههم أيضا. كانوا صغارا جميعهم، وكانت مشاهدتهم وقد قطعوا شوطا نحو الكهولة تدعونا إلى أن نتذكّر أن أكثر من خمس وثلاثين سنة قد مرّت على ذلك. كانوا صغارا جميعهم، وكنا كذلك نحن أيضا. وهذا ما لم يتوقّف العرض عن تذكيرنا به.
*بعد سنتين من العمل أمكن نقل مسرحية زياد الرحباني «فيلم أمريكي طويل» إلى السينما. كانت الراحلة ليال الرحباني قد صوّرت المسرحية بكاميرا Super 8 عند عرضها في 1980، وها هي تستعاد فيلما بمبادرة من M. MEDIA وقد تولت إنتاجها شركة Mercury.
روائي لبناني