أفكار وأفكار أخرى
أتيح لي أن أطلع مؤخرا على رواية الجزائري كمال داود، التي كان عنوانها الأصلي، كما أعتقد: «تحقيق مضاد»، وترجمت إلى العربية، لتصدر عن دار الجديد في لبنان، باسم آخر، هو: «معارضة الغريب»، وأظنه اسم يلائمها أيضا، باعتبار أن الفكرة كانت رؤية جديدة، وتفاصيل جديدة، متخيلة، لحادثة العربي المقتول، في رواية «الغريب» للفرنسي ألبير كامو، الصادرة منذ أكثر من سبعين عاما.
وكما هو معروف فإن الرواية، أعني: «تحقيق مضاد»، رغم قصرها الشديد، وأنها تعتبر( نوفيلا) في حجم الروايات، إلا أنها انتشرت بسرعة، ووصلت إلى عديد من اللغات، وإلى القائمة القصيرة، لجائزة غونكور الفرنسية. لن أتحدث عن الرواية، التي راقتني إلى حد ما، ولن أقارنها برواية قصيرة أخرى حاصلة على جائزة الغونكور، هي، «موعظة لسقوط روما»، للفرنسي الشاب، المدرس في دولة الإمارات، جيروم فيراري وكانت رواية عالية الجودة، وترجمتها إلى العربية جيدة، كما أتصور، فقط أتحدث عن فكرة معارضة النصوص التي بدت لي فكرة جديرة بتأملها، وإن أمكن الاستفادة منها في الأعمال الكتابية.
حقيقة لست متأكدة إن كانت فكرة معارضة النصوص هذه، فكرة قديمة أو مبتكرة، ومرت علي نصوص تستخدم شخصيات كتاب معروفين داخلها، مع إشارات طفيفة لعناوين نصوصهم، وليس مثل رواية داود التي تتحدث عن شخصية وردت في كتاب، وهي من الشخصيات التي أصبحت معروفة في الأدب العالمي، باعتبار أن رواية كامو «الغريب» رواية مشهورة، ودخلت في التراث الأدبي الروائي، وتدرس في جامعات كثيرة، بلغات عديدة، هكذا.. والمتصفح للروايات، أو قارئ الروايات المزمن، يجد كاتبا مثل غابرييل ماركيز، مشارا له في روايات عديدة، وحتى عربية، وقرأت منذ خمسة عشر عاما، رواية اسمها، «سيد البحار» للكاتب البرازيلي جوزيه سارنيه، الذي كان رئيسا للجمهورية ذات يوم، وفيها شخصية الشاعر بابلو نيرودا، ومبدعين آخرين، كجزء من شخصيات الكتاب، وحسب ما أذكر فإن الشاعر أدونيس كان موجودا أو مشارا إليه، في رواية «العصفورية»، تلك الرواية المرحة للعظيم الراحل غازي القصيبي، وكنت أشرت للكاتب الأمريكي جوزيف كونراد، صاحب «قلب الظلام» المعروفة، في أحد أعمالي الرواية، وأظن أن المسألة ممتدة، وتبدو مسألة إدخال شخصيات الكتاب والشعراء والسياسيين، في القص، جزءا من الحيل التي ربما أصبحت تقليدية الآن، مع موجات الحداثة والتجريب.
بالنسبة لموضوع معارضة النصوص، أو كتابة تكملة لنصوص أحس كاتب ما بأنها ناقصة وتحتاج لمن يكملها، خاصة إن رحل كاتبها عن الدنيا. فأنا شخصيا لا أرى تكملة نص لكاتب راحل، أو إضافة أشياء وحوادث وشخصيات جديدة إلى لحمه، فكرة سخيفة أبدا، على الرغم من أن البعض يعتبرها كذلك، من منطلق أن الكاتب قال ما يريد قوله، ومضى ولو كان يريد الإضافة لأضاف..
المسألة ليست كذلك،، وبوصفي صاحب تجربة في القراءة والكتابة، أؤكد أن الكاتب حين يعمل على نص ما، يعمل بمعطيات ما يأتيه ساعة الكتابة، وطبعا بعد أن تكون الفكرة قد ترسخت، وبداية الانطلاق حدثت، هنا يكتب وقد علقت بذهنه الحكايات التي ستملأ فراغات النص، والشخصيات الكبرى والثانوية، والطرق التي قد يعبرها شخص بقدميه أو بعربته لا فرق، والمآتم التي قد تقام، أو الأفراح التي سيفرحها شخوص، داخل النص طبعا.. وحين ينتهي، يغلق ملف الكتاب وينشره، ويبدأ في انتظار إيحاءات جديدة، هكذا.
الذي يحدث أن امتدادات مفترضة، تداهم خيال الكاتب قبل أن ينشر الكتاب حتى، أو بعد أن ينشر مباشرة، وتظل تلك الامتدادات تتوسع، والكاتب بلا حول ليضع تصوره الجديد، في كتاب خرج من عنده، ولن يعود.
هنا يتناسى الكاتب تلك النواقص التي كانت ستكمل كتابته، لكن دائما يأتي من يذكرنا أن هناك شيئا غير مكتمل، حدثا كان بحاجة لعناية خاصة، شعرا منكوشا على رأس امرأة جميلة، كان ينبغي أن يضفر، عريا يرتديه طفل، وكان بالإمكان أن يستر بقماش رخيص، وقد قرأت مرة في رواية، عن عامل فقير جدا في منجم للفحم، متسخ، وحافي القدمين، وتفوح من جلده رائحة مزعجة، بسبب القذارة، يأخذه مدير المنجم ذات يوم إلى بيته ليكنس حوش البيت، وقام بكنسه بالفعل، وسقى حديقة صغيرة موجودة، وجاءت إحدى بنات المسؤول الجميلات، جالبة له غداء دسما، ووقعت مباشرة في حبه، وكادت أن تسقط صينية الغداء، من يدها، وحين أراد المغادرة آخر اليوم إلى عشته الفقيرة، بكت مما جعل والدها يطلب منه البقاء ليتزوج ابنته، وكانت جامعية، درست علم اللغات، لكن العامل يرفض ذلك العرض، ويفر من المكان.
مثل هذه الفقرة التي حكيتها، وكتبت بالفعل في رواية، لا يمكن أن تكون فقرة واعية أبدا، وأي قارئ، حتى لو كان من قراء مجلات الأطفال، وكتب الخواطر العاطفية، قطعا يحس بطعم الطبخة السيئة، حالما يتذوقها. هذه ليست واقعية، ولا واقعية سحرية، ولا فنتازيا أيضا، وبذلك لن يكون سخفا أن تعاد كتابتها مرة أخرى، مع اعتبار أن المسافة كبيرة جدا بين عامل في منجم يتلقى جنيهات وصاحب المنجم الذي يجود عليه بتلك الجنيهات.
لدي تجربة شخصية، حين أعدت قراءة عمل لي كتبته في زمن البدايات، كانت ثمة قصة ما، لا بأس بها، لكن الطعم النيء كان حاضرا، ومن ثم قمت بنفسي بتعديل فاجعة النص، بما رأيت أنه يناسبني الآن..
كاتب سوداني
أمير تاج السر