الجسَـد وذاكرة التأثيم

الجسَد وذاكرة التأثيم

الجسَد وذاكرة التأثيم

حين كتبتُ روايتي الأولى «إيلاف (هم)»، ولم تكن حينها تحمل هذا العنوان، كنت أفارق لأول مرة محفل الشذرة التي قد استدعتني بعوالم التكثيف والإبهار والومض لزمن طويل إلى ذلك التآخي البهي بين نشدان الشعر وطلب الحكمة. وحين فارقتهما إبداعياً للمرّة الأولى لم تكن الرواية بالنسبة إليّ مهرباً للسكن أو للزيارة أو للجوء، فقد كانت الكتابة الروائية، أو على الأصح كان فعل السرد. عند كتابة «إيلاف (هم)» مع بداية سنة 2011، لم أكن أدرك فعلياً ما أقدم عليه، لم أكن أريد كتابة رواية من مئة وثلاثين صفحة، لكن نفس جملتي السردية، بعيداً عن الذات كان لا يزال في أول الحبو. قد يكون سرد الذات أسهل على قلمي بعد مران طويل، لكن أن اكتب بأصوات آخرين، أن ألتبس غيري وأتخذه موضوعا وذاتاً سردية، دون هويتي وصوتي الخاصين، ذاك أمر لم تكن جملتي السردية قد اختبرته من قبل في سياق حيز نصي يتجاوز القصة الومضة أو القصة القصيرة.
غرفة النوم
لم أدع شخصيات الرواية ولو مرَّة واحدة إلى غرف النوم الزوجية. بالفعل حضرت غرفة النوم داخل المستشفى، حيث كان حميد يتعافى من إصابته بشظايا 16 مايو/أيار، تحت عناية زوجته حياة، وأطلَّت الرواية على غرفة نوم عَزَّة عفَّان صديقة حياة، لكن السرد لم يتلصَّص على غرفة نوم حياة وحميد، أو مخدع والدي حياة أو مخدع جدَّيها أو مخدع والدي عَزَّة. لا يرتبط الأمر بجرأة سردية تعزف عن تتبُّع ما قد يحدث خلف الأبواب المغلقة، إبداعياً كانت شخصيات «إيلاف (هم)» تتحرك في حيز نصي ضيق، مثلما كانت الأحداث تمضي وفق منظور تأملي استعادي يخترق مخزون الذاكرة، لا يتيح الفُسح الملائمة لدخول المخادع ولتعقُّب ما كانت تخفيه الأبواب الموصدة على ذلك الفراش أو ذاك السرير. أكانت الشخصيات محافظة أكثر من اللازم؟ أكانت ترغب في ارتياد الحانة فيشدُّها السرد عنوة نحو عتبة المسجد؟ أكانت تريد أن تُرى عاريةً من كل لباس فيحشَد لها السردُ كل الأزياء والأقنعة والستائر؟
أدرِك سردياً أن الحكي حين استدعى لقاء «حميد» زوج حياة بأصدقائه مساء 16 مايو 2003 في سهرة احتفالية في مطعم «دار إسبانيا» في مدينة الدار البيضاء، لم ينشغل السرد بطقوس الاحتفال أو بما صاحبه من كؤوس انتشاء ومرح وفرح، كان المقطع السردي يشيِّد للمتواليات السابقة واللاحقة مرقى آخر لا يهتم بتلك التفاصيل، فالأحداث يرسمها السرد على وقع ذاكرة «حياة» التي لم تواكب الحدث، وإنما وقفتْ على آثاره المنحوتة على أجساد الضحايا وأرواحهم بعد أن لحقت الشظايا من لحقت أو فجَّرت من فجَّرت.
أنثى
حين فرغتُ من كتابته «إيلاف (هم)» نهاية سنة 2011، ظلت رفيقة أدراجي ومراجعاتي إلى منتهى سنة 2013، حيث ستفارق عنوانها الأول الذي كان ناشرها (دار النايا في دمشق) يعرفها به، وتصدر مع بداية 2014 بوسمها الحالي. لكنني لم أفكر ولو مرة واحدة في إعادة سردها، أو في رسم لوحات غرف النوم بألوان أخرى قد تكون أكثر إثارة وإغراء للقراءة أو للتصفح. ولطرافة التأمل في الموضوع أذكر أن صديقي الناشر العزيز رغم كل ما قد دونتُه أعلاه عن الرواية فقد وجد ضمن لوحات «إيلاف (هم)» العديدة مشهدا يراوغ عري الجسد المؤنث، المبلَّل متدثِّراً بمنشفة الحمام على عتبة باب الشقة المفتوح وعيني الزائر الشاب المتلصِّصتين بمكر، فوضع باختيار حر اللوحة على غلاف الرواية الخارجي.
روايتي الثانية «إنِّي وضعْتُها أنثى» كان حظها أوفر من سابقتها شرعت في رسم عوالمها بمجرد عودتي من الخرطوم وجائزة الطيب صالح العالمية للإبداع الكتابي سنة 2013 فقد عكفت عليها لسنتين تامتين، ووجدتِ الناشر (دار الهلال في القاهرة) بانتظارها قبل أن تُتمَّ الحولين. آمن بها وبما تقترحه من طرائق سردية مبتكرة، إلى أن صدرت في 15 مايو 2015، لم أتبين يومها مكر التواريخ، انشغلت بالفرح وحسب، لأكتشف في الغد أن روايتي الثانية تخلِّد تواريخ روايتي الأولى بإبداع مختلِف. لم تترك «إنِّي وضعْتُها أنثى» لمقاصد السرد فسحا عديدة للتردد وهو يتأمل الجسد أو يتلصص على غرف النوم، فشخصية «مَهْدية» كانت تلوح أمام جملي السردية بكل سطوة أنوثتها البهية، لتصرف السرد عن التفكير وتدعوه إلى الانقياد إلى الفطرة والصفاء وتمزيق الأقنعة المزوَّرة .
دون ستائر
كشفت لي «مهدية» وهي تجوب مدينة تطوان ما لم أكن أعرفه. انكشفت أمامي «مهدية» دون حواجز، وانكشفت أمامي تطوان دون حنين العودة القاتل. قد يكون ملائما في هذا المقام أن أقول: مهدية كانت تقود السرد بكل غواية، رغم أنها لم تتولَّ مهمة السارد سوى في فصل واحد من فصول الرواية الأربعة، بينما لم تقد حياة دفَّة السرد في كل رواية «إيلاف (هم)»، رغم أنها كانت عيْنَي السرد في كل الفصول والأوراق والأيام. أيصحُّ ذلك؟ ليست لي معرفة سابقة بشخصية «مهدية» أو»حياة»، لكن بينما كانت الروايتان ترصفان الحبكة وسردها هنا وهناك، كنت أكتشفهما للمرّة الأولى، وأكتشف معهما ما يشيِّده لهما السرد من حيوات ومسارات ومدارج. في «إني وضَعْتُها أنثى» اقتحم السرد مخادع النوم لأكثر من مرة. ولج السرد مخدع مهدية وأبي زكرياء مرات عدة. وتلصَّص على مُتَع مهدية وعزيز وصولاتهما في بيتهما الأنيق في إشبيلية. أكان السرد أجرأ إبداعياً في «روايتي الثانية»؟ لا أملك جواب الإثبات، مثلما لا أملك جواب الإنكار. لم يكن باستطاعة السرد أن يرسم لوحة مهدية الحقيقية بعيدا عما رسمه لها الكاتب «عِمران» بالحرف في فصل الرواية الأول، وبعيدا عما رسمه لها «عزيز» الفنان التشكيلي من لوحة بالألوان الزيتية، أو بالحرف في الفصل الثاني من الرواية، دون أن تنكشف أمام السرد عاريةً من كل المرايا، متخفِّفةً من كل أثقال الجسد، شفافة مثل روح محلِّقة.
تأنيث العالم
كثيرة هي الروايات والأعمال الإبداعية التي توغلت في صورة الجسد العاري، وليس جديرا بالاهتمام في هذا السياق تسليط الضوء على جنس الجسد أو عرقه أو هويته أو شكله. ولا يمكن حصر تلك الأعمال في السنوات العشرين الأخيرة، مثلما تدأب جل الدراسات النقدية التي لا ترى في ما تبدعه الكاتبة حالياً، من موقعها الأنثوي في العالم إلا ما تسميه تلك الدراسات «أدبا نسويا»، بينما لا توازي التصنيف بالمنطق ذاته في معادله الموضوعي والمنطقي «الأدب الرجالي»، فالتصنيف توصيف وتحديد يميز بين مختلفين أو أكثر بما لهما، أولهم من صفات تستدعي التمايز والتمييز والتحديد والفصل والتسمية. أليس للأدب وللإبداع وللفكر أن يؤنث العالَم الذي تشكلِّه الأنثى والذكر، قليلاً؟ إن الدراسات الثقافية الكونية حين تسمي النظريات أو الدراسات أو المباحث أو المنصات الجامعية ب»النسائية» فهي تنطلق من رؤى إنسانية تنشد العدالة، وتعيد عبر مفهوم «التمكين» القوةَ للفئات التي لحقها الإقصاء والتهميش والاستبداد. وبناء على ما سبق فذلك الوسم ب «النسائي» يروم منذ «التسمية» أن يكون فعل مقاومة للسائد/المستبد، مثلما يروم أن يكون «تحيُّزاً» إيجابيا لصالح آداب أو إبداعات أو خطابات لم ينصفها الأدب أو الإبداع أو الخطاب «المعتَمَد» مؤسَّساتيا داخل محرابي الجامعة والدرس النقدي. ليس مهما في هذا المقام القول إن رسم الجسد العاري لا علاقة له بتحديث الإبداع أو بتثويره أو بخروجه عن قيود المحافظة، فالأمر منوط من قبل ومن بعْدُ بقيم الفن والجمال والإبداع وليس بمعايير الأخلاق. لكن قد يكون أهمَّ القولُ: إن للسرد منطقه الخاص الذي تبنيه كل رواية بشكل متميز ونسق فريد، بحسب ما تشدُّه الْتِفافةُ الخيوطِ التي تنسجها الشخصيات والأعمدة المتينة التي ترفعها القصة والطوابق والفصول والممرات التي يصقلها الخطاب. الأمر مرتبط في المبتدأ والمنتهى بحكاية لُحمة وسدى، تسعى إلى الفتل والحبك واللحم والتزيين.
هو الجسد
إن الجسد العاري هو ذاته أمام الولادة والوفاة، هو الأصل دون أقنعة أو أزياء، ملفوفاً في الكفن أو مغمورا بمياه الوضع. والفتنة فائض قيمة تسجِّله الحياة لاحقاً لصالح حسابات أخرى. وحين يستعيد الجسد صلته بعريه الأول، حين تتصالح الروح مع عري الجسد، حين تُلغى ذاكرة التأثيم من منظورات التربية والتدجين والتصنيع وإعادة الإنتاج وإعادة التدوير، يمكن للأدب وللإبداع وللرواية أن ترسُم لوحات أخرى لم تخطر على بال الجدران المنتصبة في كل مكان. ويمكن للواقع أن يكرِّم الإنسانَ الروحَ والجسدَ دون أحكام مسبقة أو مزالق للتدنيس أو للتقديس. إنه الجسد وعاء الروح لا تتعالى عنه ولا يسمو دونها.
٭ كاتبة من المغرب

m2pack.biz