عن عشق ناتالي الذي يزداد صعوبة

عن عشق ناتالي الذي يزداد صعوبة

عن عشق ناتالي الذي يزداد صعوبة

كان رشيد هو مَن بادر إلى الطعن بتلك الصورة التي أمدّتنا بها ثقافتنا عن الغرام. كان قد قال، بما يشبه الاعتراف، إن علاقته بمريم «علاقة من دون أفق يمكن أن تنتهي في كل لحظة، وقد دامت على هذا النحو قرابة سنة». وحين اتصلتْ به تلفونيا لتقول له أنها حبلتْ وأجهضت، «أجبتها بلا رحمة: أكيد منّي؟ فأقفلت الخطّ».
لكن لم تكن الحال هيّنة هكذا مع ناتالي، تلك الفتاة الفرنسية التي تعرّف إليها سنة 1986 في باريس. في تلك السهرة، وليحوز قلبها، أظهر عما في جعبته «بطاريتان من المدافع الغاوية لم يكن صديقها، ولا أحد من الحاضرين، يملك أيّا منهما: حرب لبنان المستعرة، ثم الشعر والرواية». وقد علقا معا، هو وناتالي فورا «في عاصفة من الحبّ لا توصف».
في ما تلا ذلك من الشهور، وربما من السنوات، استمرّت تلك العلاقة متقطّعة بسبب تباعد البلدان بينهما: بيروت وباريس ثم نيويورك أيضا التي كانت انتقلت ناتالي للعمل فيها وقام هو بزيارتها هناك «مشيا على سطح الماء».
هذه المرّة، مع ناتالي الباريسية، بل والأمريكية النيويوركية، لن يكون هو على قدر التكيف الذي كانه مع مريم. ففجأة، وهما في عاصفة الحب المتجدّدة هناك، بدأ يلاحظ، بل يعاني، أن حبيبته تقيم علاقة مع رجل آخر، وفي سرير ليس هو سريرهما ذاته الفسيح مثل «ملعب كرة قدم». وإذ أفصح لها رشيد عن شكوكه، أقرّت هي بما كانت تفعله، من دون أسف ولا ذنب، قائلة إنها حرّة وإنها غير مستعدّة أبدا لأن تساوم على حرّيتها. وهي قالت أيضا بأن علاقتها الأخرى، أو علاقاتها إن أُخذنا المستقبل بعين الاعتبار، لا تتعارض مع حبّها له وتعلّقها به.
ها هي ناتالي تقترح عليه، هذه المرّة، نقلةً لم يكن متهيّئا لها، لا عاطفيا ولا غريزيا، ولا فكريا بنسبة أقلّ. ربما، لجهة هذه الأخيرة (الفكرية) كان الأمر مفهوما إذ أنّ من يدعو إلى التخفّف من أثقال الالتزام العاطفي، عليه أن يقبل بالذهاب في ذلك إلى آخر مطافه. وطالما أنه حامل لتلك الثقافة الحديثة، وينبغي أن يكون أحد الدعاة لها بسبب ذلك، سيكون مخجلا له أن يقف عند نقطة ما من رحلة التقدّم ويقول: إلى هنا.. كفى!
لا يتعلّق الأمر هنا بالشرف أو الرجولة، وهما من الروادع التي كان سيحتكم لها جدّه أو أبوه، فهو أقلّ منهما تعلّقا بالأوهام التي قضى كل منهما عمره من دون أن يفهم كيف جرى تكريسها ولماذا. إنه، في موقفه ذاك، أضأل من ذلك على كلّ حال. إنه يقف عاريا أمام ما ينبغي له القبول به، مرغما عليه. هو الذي لم يكتمل تجهيزه بعد، عليه الآن أن ينتظر عودتها في وقت متأخر من الليل، لتصير في سريره الآن بعد أن سبقه رجل آخر إليها. ولن يشتكي. لن يقول بأن ما يُمتحن به يتعدى ما استقرّت عليه أوروبا من حريتها. لن يقول بأنه يقف الآن وجها لوجه أمام النسخة الأخيرة من تلك الحرّية، تلك التي لم يتوصّل كثير من الأوروبيين إلى الإقتناع بها… أما هو، فينبغي عليه أن يكون طليعتهم، في صفّهم الأمامي،»هناك أزواج تخونهم زوجاتهم في أسرّتهم المشتركة بالذات، فهل يمكنني التوصّل إلى هذا؟ هل يمكنني بلوغ هذا الحدّ من الرقيّ؟».
ما يرجع عمره إلى آلاف السنين سيكون عليه، هو رشيد، أن يحسمه الآن، وفي تلك الليلة بالذات. إن لم يعجبه ما عُرض له فعليه الرحيل الآن، هو الذي ربما لا يملك، بسبب ما فعلتْه به الحرب التي كانت أحد «مدافعه» في السهرة التي استحوذ بها على ناتالي، ثمن تذكرة العودة إلى لبنان.
ما جرى له في علاقته مع ناتالي ربما كان الأهم بين فصول حياته، هذا إن أُجيز لقارئ كتابه أن يحكم انطلاقا من عدد الصفحات التي خصّصه لها من بين ما انتقاه من وقائع حياته الأخرى. ثم أن تجربته تلك ذهبت به إلى ما كان يزداد استعصاء وعمقا وعجزا عن المفاضلة بين الخيارات. ذاك لأنّ الأمور، في ما خصّ ذلك العشق مع اللواتي يغيّرننا آخذات بأيدينا إلى ما يأتي به الزمن من جديد، لم تعد هيّنة كما كانت من قبل. بات وراءنا الزمنُ الذي فيه كان مصطفى سعيد يوقع بهنّ، وهو بين الأبطال الأكثر شهرة في الرواية العربية، مستخدما تعاويذه وأعشابه السحرية. كما بات وراءنا ذلك الغرام الرومنطيقي لبطل توفيق الحكيم «عصفور من الشرق» الذي كان بين الطيور المهاجرة الأولى إلى هناك، ولنزد على ذلك «ليون الأفريقي» الذي كان يظنّ، وهو ذاهب لاكتشاف ذلك العالم، أن لديه ما يعطي بقدر ما كان آتيا ليأخذ.
رواية رشيد الضعيف «ألواح» تنقل نتفا من سيرة الكاتب، صدرت عن دار الساقي في 159 صفحة، 2016.
روائي لبناني

m2pack.biz