عن الأمير دي لامبيدوزا آخر سلالته
«الفهد» هي الرواية الوحيدة التي كتبها جوزيبِّه تومّازي دي لامبيدوزا. لم يُتح له أن يراها مطبوعة في كتاب، إذ كان قد لقي حتفه قبل سنة من نشرها في 1958. أما ما تناولته فصولها فهو العالَم الذي يعرفه، هو أمير لامبيدوزا، وذلك القصر الذي ربما ظلّ مقيما فيه، هو نفسه، حتى وفاته.
بطل الرواية هو والد جده، الأمير المهيب دون فابريتسيو الذي، في عام 1860 حيث تبدأ الرواية زمنها، كان قد قطع الأشواط الأولى نحو انتظار كهولته. من ذلك أن الرواية تنقل دنَسَه الأخير، وذلك حين خطر له أن يذهب إلى المدينة ليرتكب تلك المعصية مع غانية عرفها من قبل، لكنه لم يعد إلى ذلك من بعد. كانت تلك المرة الأخيرة إذن، فقد راح ينشغل بعدها بمراقبة ما يتغيّر في العالم حوله، متخوّفا من أن تؤدّي الثورات في أنحاء إيطاليا إلى الانتقاص من نفوذه ومكانته.
لم يكن مُهابا في قصره فقط، بل في الإقطاعية الواسعة التي هي ملكه، بل هو مهاب في البلدة التي لا يبعد قصره عنها كثيرا. هو الآمر، ولم يؤمر في الرواية إلا مرّة واحدة، وذلك حين تلقى تنبيها من الملك فرديناند من أن ربيبه، وهو ابن اخته، ينشط مع الثوّار بقيادة غاليباردي. هي مرّة واحدة، هنا أيضا. أما ما عداها فهو الحاكم الأول، حتى بدون سلطة حكومية تعضده، إذ هو رفض المنصب الضخم الذي عرضته عليه حكومة ما بعد الثورة، لكن حساسيته مرهفة وحادة تجاه ما قد يحمل الزمن من تبدّل للأحوال. فها هو، من بين تنازلات نادرة راح يرضخ لها تدريجيا، يرضى بتزويج ربيبه إلى ابنة رئيس البلدية، القميء، المفتقد للذوق في لباسه، كما في كلامه، لكنه حصّل بتسلّقه ثروة ومكانة لن تلبث، في حياة الأمير، أن تصير مساوية لثروته.
أما قصر الأمير، وهو ليس إلا واحدا من قصوره، أو بيوته، فتضعه الرواية في مصاف يفوق كل ما جرى تصويره في الأدب المكتوب. الحدود المكانية لامتناهية في هذا الصرح الذي لا تزيد المساحة المأهولة فيه، من قبل عائلة الأمير ونزلائها الدائمين، إلا الحيّز الأضأل. وفيما كان ابن أخته تانكريدي يجول مع خطيبته أنجليكا في القصر، متخفّيين عن أنظار ساكنيه، راحا يكتشفان أنحاء منه، واسعة ومتعدّدة، كانت كما لو أنها مجهولة من صاحب القصر نفسه. هي أبواب يفتحانها فتفضي إلى أمكنة عاش فيها أسلاف العائلة الأمراء، بل هي أزمنة أيضا ذكر دون فابريسيو، الأمير، إحدى حقبها فيما هو يتذكر جدا له عاش هنا من قرنين انصرما.
لا حدود لضخامة القصر واتساعه. لا يقاس به ذلك «المنزل» الأمريكي الذي وصف فرانز كافكا اتساعه وتشعُّب أنحائه، فيما هو يكتب عن الاتساعات الأسطورية، لكن المضحكة، التي تحرص أمريكا على أن تجعلها دالّة على عظمة عالمها الجديد. هو الاتساع الخرافي في رواية دي لامبيدوزا الذي يبدو وصفه كأنه كُتب بصيغة الواقعية السحرية، أو الواقعية الخرافية، في الأدب الأمريكي اللاتيني. ولا يبتعد الأمير كثيرا عن ذلك أيضا، إذ يبدو، بقدرٍ ما، قريبا إلى الكولونيلات والبطارقة في روايات غابرييل غارسيا ماركيز (بدون أن نغفل عن أن روائيّنا دي لامبيدوزا قد سبقه إلى كتابة روايته هذه). كما إنه سبَقَ كتاب مارغريت يورسنار «مذكرات أدريان» إلى كتابة البطولة (الروائية) بصيغة الاعتراف. فالدون فابريتسيو، الأمير، يكتب هنا عن حياته، ابتداء من علامات انطفائها الأولى، ودائما يكشف عن المشاعر غير النبيلة التي تنطوي تحت مشهده المهيب، ذاك الذي لا يمكن أن يكون له هذا الأثر الكاريزمي الهائل في من حوله، لولا ضخامة جسمه. إنه، يخرج إلينا من أبهّته ليكلمنا كما لوأنه يفشي لنا أسراره. إنه يعترف هنا، مبجّلا قرّاءه أكثر مما يبجّل الكاهن ملازمه والمقيم في بيته لغرض الاعتراف والغفران.
وكل ما هو مروّي يقال بأبهة لغوية أميرية، أو ملكية. بلا هذر ولا ركاكة ولا استرضاء لقارئ. إنه الكلام المصفى، كلام الاستشراف والحكمة. وإذ تُسرد الرواية بصيغة الهو، أي بغير صيغة المتكلّم، لا يبعدنا ذلك أبدا عن صوت الأمير ونبرته. ذاك لأن كاتب الرواية هو سليل الأمير، حفيده الذي رغم تغير الأحوال في صقلية، بلد الاثنين، وإيطاليا دولتهما، إلا أن كثيرين من قراء الكتاب وناشريه ونقاده رأوا أن ما كتبه جوزيبِّه تومّازي دي لامبيدوزا هو حياته هو متماهية مع حياة بطله الذي هو جدّه. وهذا ما يضيف إلى الكتاب تلك الخصيصة الاستثنائية، حيث لم يكتب أمير من قبل سيرة أمير عاش في قصره ذاته، تفصل مئة سنة بين أحدهما والآخر.
رواية «الفهد» نقلها عن الإيطالية عيسى الناعوري وأشرف عليها معاوية عبد المجيد الذي زاد عليها تعديلات كانت أُدخلت على طبعتها الإيطالية الأخيرة- صدرت عن «المتوسط» في 330 صفحة- عام 2017.
٭ روائي لبناني