مسرح «التعزية» راسخ في المشهد الثقافي العراقي الراهن
بغداد «القدس العربي» من صفاء دياب: ما عرف ب«الحملة الإيمانية» التي أطلقتها الحكومة العراقية خلال تسعينيات القرن الماضي، كان الشرارة الأولى التي أرست جذورها في تغيير بنية المجتمع العراقي. تحول من مجتمع منفتح على الفنون والآداب إلى مجتمع مغلق لا يفكر إلا بالخطوات التي رسمتها الدولة له. وعلى الرغم من النوايا التي بنيت عليها تلك الحملة، والتي فهمها المواطن حينها، غير أنها امتدت عميقاً خصوصاً بعد محاولات بعض رجال الدين الشيعة إلى تغيير البنية الثقافية من خلال دعم أفكارهم «الإيمانية»، ما أثر بشكل مباشر على الفنون عموماً، وعلى فن المسرح خصوصاً.
انحسار الفني
يشير الدكتور طارق العذاري، في حديث مع «القدس العربي»، إلى أنه «لا تهيمن ظاهرة من الظواهر على المحيط الاجتماعي، إلا بسبب تراجع ظواهر أخرى. وهذا ليس على صعيد المسرح والثقافة، بل في كل الأصعدة والمستويات، عالمية كانت أم محلية»، مضيفاً أنه من الملاحظ أن «تراجع قوى اليسار العالمي والوطني من دوره في الشارع العراقي، وانحسار النفوذ القومي الليبرالي، وانتعاش الاتجاهات الدينية المعتدلة والسلفية المتشددة، لابد أن يترك آثاره على واقع العراق الرخو اقتصادياً وسياسياً وثقافياً».
عباءات الدين
من جهته، يرفض الدكتور فاضل السوداني، وجود «مسرح تعزية»، عاداً إياه «مشاهد بكائية يقوم بها فنانون مدفوعي الثمن من قبل المؤسسات الدينية من أجل التاكيد على الحس الطائفي، وهذا هو السبب من إشاعة مثل هذه العروض وإن كانت غير كثيرة»، موضحاً أن «الهدف غير فني»، فهم يقدمون هذه البكائيات ب»تقنية المسرح التقليدية وليس هنالك تمايز تقني مسرحي خاص بالمسرح، فمسرح التعزية في العراق هو منصة لتقديم مأساة الطف، وهي جريمة بشعة والآن تتكرر المئآت من مثيلاتها في العراق كل شهر تقريباً».
تحدي المتغيرات
يرى الكاتب المسرحي مثال غازي أن «الوضع السياسي والاجتماعي في العراق منذ عقود طويلة، وتحديداً منذ الثمانينيات، قد مر بمراحل حرجة من حرب الخليج مروراً بفتره الحصار إبان التسعينيات وصولاً إلى حرب الخليج الثانية، ثم الاجتياح الإمريكي للعراق وهذه المتغيرات الكبرى الكارثية لابد أن تلقي بظلالها على كل مفاصل الحياة في العراق ومنها الفن وتحديداً المسرح»، مشيراً إلى ان «المسرح بؤره خصبة لخطاب يعنى بالمتغير لذلك تعددت أشكال الخطاب عند المسرح من التعبئة والتحشيد إبان الثمانينيات إلى التباكي بعدما طالت الحرب وانكسر زهو الانتصار الذي كان يحلم به صدام حسين، لينتقل الخطاب التسعيني إلى مستوى آخر وهكذا بدأت المتغيرات تعكس بظلالها على مشاكل جديدة حتى وصلنا أخيراً على هيمنة الخطاب الديني بسبب نزوع الإسلام السياسي في العراق على فرض معطيات جديدة على المسرح بسبب امتلاكها التمويل اللازم للإنتاج بعدما تراجعت الكثير من المؤسسات الفنيه، ومنها وزارة الثقافه بالاضطلاع بدورها في قيادة الحركة الفنية ما جعل هيمنة المؤسسة الدينية واضحاً ومؤثراً على الجو الثقافي عموماً».
مدن معزولة
يوضح الاستاذ الجامعي جبار خماط أن «الحرب والإرهاب والتاريخ الديني في مرحلة ما بعد 2003 تشكل مقاربة مسرحية تمثل بنية العرض المسرحي التي يتحقق أثرها الجمالي والفكري والنفسي بوساطة الشراكة المسرحية ما بين الجمهور والعرض المسرحي. كما أن ما يطرح على خشبة المسرح في حدود المدن العراقية من يوميات تتناول السياسي أو الديني أو مظاهر الإرهاب من دون تحويلها إلى خبرة جديدة في وعي الجمهور، يعد ترسيخاً للسلبي في حياتنا اليومية، وهو ما يناقض وظيفة المسرح الأساسية من تنوير للوعي وتقديم روية مسرحية تتسم بالجدة والتنوع لما هو مألوف من الأفكار، وتطهير للنفس من المشاعر المؤلمة التي أسفر عنها الإرهاب والعنف الطائفي، ومن هنا، ما نجده من عروض مسرحية تعد تدعيماً لليومي الخشن وانعكاساته في وعي الناس. وهو ما يناقض وظيفة المسرح في تحويل السلبي إلى إيجابي بمنطق المعالجة المسرحية. لذا تبرز تساؤلات حول جدوى استثمار الوقائع اليومية أو الشخصيات الدينية مسرحياً؟ هل نحن معها أم ضدها؟ وهل ما قدمه المسرحيون كان ناجحاً في التعبير عن الاحتجاج أو الرفض أم كانت العروض المسرحية تدعيماً للحالة السلبية التي يمر بها العراق؟
التفريغ المقدس
ووفق المخرج الشاب، مصطفى ستار الركابي، فإن الملتقى العراقي عموماً تربى على نوع معين من الإصغاء الإرادي، وهو الإصغاء داخل المساجد والحسينيات والمجالس العشائرية وغيرها من الأماكن التي يطغي عليها طابع التقديس بنوعيه الديني والاجتماعي.. ولم يكن المسرح العراقي مكاناً مقدساً يمكن أن يعامله المتلقي بالطريقة نفسها التي يتعامل فيها مع المنبر الحسيني أو غيره من مراكز البث التي تتطلب التفاعل بنفس طريقة المسرح، ولنفس السبب انقسم جمهور المسرح لنوعين، الأول تدفعه آيديولوجية معينة ليكون متلقي (مكلف) أثناء حركة الشيوعيين العراقيين واتخاذهم للمسرح كوسيلية إعلامية. والنوع الثاني كان ضيفاً ينظر للمسرح على أنه شيء ممتع ومضحك، وكلا النوعين بعيدان كل البعد عن فكرة المقدس والإيمان بالمسرح».