الروائي والسيناريست!

الروائي والسيناريست!

الروائي والسيناريست!

الرواية العربية والسينما توأمان من حيث التحقيب التاريخي اذا اعتبرنا رواية ‘زينب’ لهيكل هي الرائدة لهذا النوع الادبي، لهذا لم يكن سيناريست السينما طارئا على الرواية، لأن اهم الروائيين العرب كتبوا او راجعوا سيناريوهات لأفلام وفي مقدمتهم نجيب محفوظ، وبالرغم من ذلك كان محفوظ يتحفظ على ابداء رأيه بالافلام المأخوذة عن رواياته، وقد قرأت مؤخرا بحثين حول العلاقة بين الرواية والسينما أحدهما لشريف صالح في مجلة الفنون الكويتية والاخر للروائي والباحث نبيل سليمان في ندوة بصالون بحر الثقافة في أبو ظبي.
وأثار البحثان لديّ شهوة الرجوع الى سؤال مزمن حول هذه العلاقة بين الروائي والسيناريست، بدءا من تجربة شخصية، فقد اتيح لي منذ فترة طويلة ان اشارك في برنامج تلفزيوني مكرس للرواية والسينما، وبدأت برواية لستيفان زفايج هي ‘اربع وعشرون ساعة في حياة امرأة’، واذكر ان البطل الحقيقي للرواية هو أصابع لاعب روليت، تعلّقت بها المرأة التي قررت ان تعيش تجربة ليوم واحد فقط بعيدا عن مدينتها وابنيها، ويومها تساءلت ما الذي اضافه الفيلم للرواية، وما الذي خسرته الرواية في الفيلم، لكني سرعان ما ادركت ان هذا التنافذ بين فنين قد يجعل سؤالا كهذا بلا معنى، فالرواية مكتفية بذاتها قبل ان يتعهد السيناريست اعدادها سينمائيا، لكن الفيلم غير مكتف بذاته بدونها، لهذا فالرواية كنصّ أدبي مقروء تتيح للخيال ان يذهب بعيدا في تصور الشخوص والمشاهد، لهذا فهي عمل متعدد كما يقول برادلي من خلال التأويلات اللانهائية، وبالعودة الى رواية زفايج وجدت ان الرواية بمعزل عن الفيلم اصبحت ناقصة، ولولاه لبقيت مكتفية بذاتها وذلك لإضافات الاخراج والتقنية واشراك حاسة السمع اضافة الى الحاسة البصرية.
لكن التجربة الثانية وهي رواية ‘ميرامار’ لنجيب محفوظ فقد عثرت على مقترب مغاير لقراءة تحولها من نصّ الى فيلم، وذلك لمعرفتي بالاسكندرية مكانا وزمانا ولذلك البنسيون الذي كانت تديره سيدة يونانية، مقتربي هو الدخول الى البنسيون وبالتالي الى الفيلم لاتحدث كنزيل تاسع في البنسيون، واحاور عن قرب شخوصا اراد محفوظ ان يجسّد بهم جملة من المفاهيم والتيارات السياسية المتصارعة في مصر الخمسينات والسّتينات الناصرية، بدءا من الاقطاعي الذي أمّمت ارضه وسخط على ثورة يوليو مرورا بالانتهازي الذي امتطى موجة الاتحاد الاشتراكي وليس انتهاء بالخادمة القادمة من الريف والتي قيل ان محفوظ اراد من خلالها ان يقول بأن مصر رغم كل الشروط التي تحاصرها تواصل الاصرار على البناء وصيانة الذات، لأن الخادمة تستعصي على كل محاولات استدراجها واخيرا تدخل مدرسة لمكافحة الاميّة !
وكنزيل تاسع فضولي لم يكن له حيّز في الرواية او الفيلم حاولت ان اقرأ ما بين السطور في الحوار لأن نجيب محفوظ كان يكتب بحذر سياسي بالغ، ويترك الباب مواربا، لكن ميرامار لم يٌترك فيها الباب كذلك عندما تحوّلت الى فيلم، وكان لا بد من توازن سياسي رغم انه جاء على حساب المعمار الدرامي للعمل.
* * * * * * *
يقول شريف صالح في مقالة اختارت ‘ اللص والكلاب ‘ نموذجا ان جون شتاينبك كان قد شاهد احدى رواياته بعد ان تحولت الى فيلم سينمائي، وحين سئل عن الفيلم بكى وقال : ان هذا ليس كأسي، لأن عنوان الرواية هو كأس من ذهب ، لكن محفوظ لم نعرف انه قال ذات يوم بأن ميرامار ليس البنسيون الذي جعلته مسرحا لروايتي او ان عيسى الدباغ في ‘ السمان والخريف ‘ ليس هو الوفدي الذي كتبت عن ربيعه وخريفه على السّواء، ولو استطردنا لتساءلنا ما الذي يمكن ان يقوله كازانتزاكي عن زوربا السينما وهمنغواي عن العجوز والبحر او وداعا للسلاح، ومن اللافت ان الروايات التي حوّلت الى افلام صدرت طبعاتها المتعاقبة سواء كانت عربية او مترجمة وصور اغلفتها هي لنجوم سينمائيين ومنها بعض اعمال محفوظ ويحيى حقي ويوسف ادريس اضافة الى العرّاب وقصة حب وزوربا، ذلك ببساطة لأن السينما اقرب الى جمهور لم يألف القراءة ويفكر كما يقال احيانا بعينيه!
بالطبع سيكون من التعميم المخلّ ان نتحدث عن مجمل الروايات التي اعادت السينما انتاجها كأفلام، فثمة سيناريست يقترض من الرواية مقابل آخر يقوم بتسليفها والاضافة اليها، وما يجب الاحتكام اليه هو مستوى الصناعة التي تتناول الرواية، فثمة روايات تم تعريبها وبمعنى ادق تمصيرها خسرت الكثير من خلال سيناريست يخاطب زبائن شباك التذاكر منها الاخوة كرامازوف لديستويفسكي ومسرحية زيارة السيدة العجوز لفريدريش دورنمات، فالسيناريست يظن ان تسطيح النصّ واستئصال كل ما يدعو الى التأمل فيه هو تخفيف للحمولة التي قد تبهظ وعيا شعبيا غير مؤهل لها !
هناك افلام روائية ظهرت بالأبيض والاسود وبتقنيات قد تبدو بدائية اذا قورنت بما وصلت اليه صناعة السينما اليوم، مما دفع بعض المخرجين الى اعادة انتاجها سينمائيا، ومنها العجوز والبحر لهمنغواي وزوربا لكازانتزاكي، لكن الانتاج الاول بقي يدافع عن نفسه لسببين اولهما بكارة العمل والالتزام بالنصّ، وثانيهما النوستالجيا التي تجتذب جيل الابيض والاسود الى ايام صباهم، فنجوم الخمسينات والستينات من القرن الماضي منهم من رحل ومنهم من شاخ واعتزل، وقد اقترنت اسماؤهم وملامحهم بتلك الافلام ، فقد التصق شكري سرحان مثلا بسعيد مهران في اللص والكلاب مثلما التصق يحيى شاهين بأحمد عبد الجواد او سي السيد في ثلاثية محفوظ.
ولو عدنا اربعة او خمسة عقود الى الوراء لرأينا ان معظم الافلام حتى العربي منها كان مأخوذا عن روايات واحيانا عن قصص طويلة نسبيا كما في ندّاهة يوسف ادريس وقنديل ام هاشم ليحيى حقّي، لكن تبدٌّل ايقاعات الحياة وبالتالي الأمزجة التي تتناغم مع تلك الايقاعات فرض ثقافته، مما دفع القلة من السينمائيين المصريين الذين لم يهبطوا ببضاعتهم الى مستوى تجاري بالغ الرداءة الى تسمية عقدين من تاريخ السينما باسم سينما المقاولين، لأن المنتجين هم من هذه الشريحة السوقية التي تستهدف الربح فقط، وهناك مفارقة في هذا السياق لا بد من التذكير بها وهي ان بعض الروائيين استجابوا لمطالب السوق وشباك التذاكر فكتبوا نصوصا تصلح للسّينما، مٌتنازلين عن شرط الابداع، لأن ما يعنيهم هو الفيلم وليس النصّ.
* * * * * *
ان ما قاله شتاينبك وهو يبكي على كأسه الروائي الذي كسرته السينما عندما فشلت برأيه في ان تكون امينة للنصّ، يتكرر كثيرا، وما يذكره نبيل سليمان عن تعليق الروائي السوري حيدر حيدر على فيلم الفهد المأخوذ عن روايته لا يبتعد كثيرا عن هذا، وتداخل الفنون وافادتها من بعضها ليس حكرا على السينما، فقد نٌسب الى سيمونيدس قبل زمن طويل ان قال بأن الرسم شعر صامت والشعر رسم ناطق، واحيانا تتفوق رسوم على النصوص التي توازيها او تنجز للتعبير عنها تشكيليا، تماما كما يمكن للترجمة ان تتفوق على الأصل حتى باعتراف من يترجم لهم، فقد قال غوته الالماني عن ترجمة نيرفال لشعره الى الفرنسية انه اجود من الأصل، بل أكثر من ذلك قال ان هذا الشعر هو الذي اراد كتابته وليس شعره بالالمانية، وقيل شيء كهذا عن ترجمة فيتزجيرالد لرباعيات الخيّام، ومن وصفوا ترجمة الشعر بأنها خيانة مشروعة، ثمة من يعيد اقوالهم اليوم عن الافلام الروائية، فتحويل النص الى فيلم خيانة ايضا لكنها قد تكون نبيلة وليست مشروعة فقط !!

m2pack.biz