هادم اللذات الذي لا تختتم الحكايات من دونه

هادم اللذات الذي لا تختتم الحكايات من دونه

هادم اللذات الذي لا تختتم الحكايات من دونه

«… إلى أن أتاهم هادم اللذات ومفرّق الجماعات ومخرّب الديار العامرات وميتّم البنين والبنات»
النذير أعلاه هو ختام قصة الملك معروف التي ترويها شهرزاد في الليلة ألف وواحدة (الأخيرة)، وهي الليلة ذاتها التي فيها يأتيها عفو الملك شهريار ليستبقيها معه في قصره، زوجة له، ومعهما أولادهما الثلاثة. وكان الاحتفال عظيما بزواجهما إذ، لمناسبته، «خلع شهريار على كامل الوزراء والأمراء وأرباب الدولة وأمرَ بزينة المدينة ثلاثين يوما، ولم يكلف أحدا من أهل المدينة شيئا من ماله، بل كامل الكلفة والمصاريف من خزانة الملك فزيّنوا المدينة زينة عظيمة لم يسبق مثلها ودقّت الطبول وزمرت الزمور ولعبت كامل أرباب الملاعب…»، لكن سرعان ما استدركت الراوية لتذكّر بأن هذه الفرحة العظيمة لن تدوم، حيث سيكون شأن شهرزاد وشهريار هو ذاته شأن الملك معروف الذي اختتمت «ألف ليلة وليلة» بحكايته التي انتهت بزواجه هو أيضا، فأتاهما هادم اللذات مثلما أتاه، مكرّرا حضوره مرتين في تلك الصفحة الأخيرة من ذلك الكتاب.
الموت المحتّم مجيئه لا يُنسى حتى في أوج الاحتفال العظيم، بل حتى في النهاية التي أُريد لها أن تكون نهاية سعيدة. ذلك الموت لا يُستدعى هنا في «ألف ليلة وليلة وحدها، بل في أكثر كتب الحكايات التي منها سيرة الملك سيف بن ذي يزن وسيرة العرب الحجازية المشتملة على رحلة العرب وحرب الزيناتي خليفة، كما كتاب «عاشق المرحومة وقصص أخرى من التراث العربي»*. بعد كل نهاية سعيدة ، أو بعد كل نهاية حملت الانتصار لبطل الحكاية أو فارسها، هناك في سطر الحكاية الأخير، السطر الذي لكثرة وروده في الحكايات العربية يبدو مثل لازمة يمكن إغفال قراءتها، سنقرأ ذلك الاستدراك المنبّه إلى أن هؤلاء الذين سعدوا، أو انتصروا، سيموتون.
هما خاتمتان لكل من الحكايات، واحدة سعيدة وأخرى فجائعية. ذلك يخالف ما يعنيه ذانك القناعان اللذان يرمزان في الغرب إلى العروض التمثيلية التي تُقدّم على خشبات المسارح، بل إن القناعين هذين يرمزان إلى وجهيْ الحياة، الضاحك والباكي، لكنهما منفصلان فأنت تستطيع أن تختار الضحك أو، في ليلة أخرى، تختار أن تشاهد في عرض آخر ما تفعل الأقدار القاسية بالبشر. لكن، عند نهاية كل من العرضين، وقبل قليل من انغلاق الستارة، سيكون الزمن قد توقف توقفا تاما معلنا أن لا نهاية ستلي هذه النهاية. فإن انتهت مسرحية أو رواية بتلاقي الحبيبين فسيكون هذا التلاقي خاتمتها، حيث سيمكث الحبيبان في السعادة التي تحقٌّقت لهما غير خائفين من صروف قد يأتي بها ما سيلي من الزمان.
في الحكايات العربية لا ينتهي القصّ عند بلوغ المأرب، فما قرأناه في الحكاية من فرحة أبطالها ليس إلا جزءا من الحياة، أو «مدّة» منها، كمثل أن نقرأ: «وأقاموا مدّة في أرغد عيش وصَفَت لهم الأوقات وطابت لهم المسرّات إلى أن أتاهم هادم اللذات ومفرّق الجماعات…» (من حكاية الملك معروف في ألف ليلة وليلة). ما ترويه الحكايات هو جزء من الحياة إذن، مرحلة من الحياة حتى إن طالت، لكن لا ينبغي نسيان الموت الذي هو وحده النهاية التي لن تلحق بها نهاية أخرى.
الأفلام العربية، شأن ما في المسرحيات، لم تترك الباب مفتوحا لما سيأتي به المستقبل. لقد حذَت، منذ بدايتها، حذو الغربيين في إيقاف الزمن حيث توضع كلمة «النهاية» الشهيرة المختتمة للفيلم، بل إننا، في أحيان، نشعر بأن تلك الكلمة ارتسمت مسرعة على شاشة التلفزيون قبل أن ينتهي تماما مشهد اللقاء الأخير بين فاتن حمامة وعماد حمدي على سبيل المثال. كنا نسأل، ونحن بعد صغار، إن كان هو، أو إن كانت هي، سيموتان في آخر الفيلم، من أجل أن نطمئن إلى أن مشاهدتنا له لن تحزننا. الآن، بعد أن استطالت أعمار هذه الأفلام حتى ملازمتها لمراحل حياتنا كلها، وجدنا أنفسنا نستعيد ذلك الهاجس الذي لم يغب عن نهايات الحكايات العربية القديمة. ذاك أن أولئك الممثلين جميعا، أبطال الأسود والأبيض، مات أكثرهم. وهم بموتهم كسروا ذلك التوقّف عند اللحظات السعيدة في آخر الأفلام، وهذا ما جعلهم يذهبون بنا إلى ما كانت الحكايات العربية تلك قد حرصت دائما على الانتباه إليه.
أعرف أن في هذا خلطا بين أشياء ومستويات كثيرة، وأننا نضيف الحياة إلى السينما جاعلين الأولى تستكمل ما كانت قد توقّفت عنده الأخيرة، بل إننا بدانا بهذا الخلط من ما قبل موت أولئك الممثّلين، أقصد منذ أن رحنا نشاهدهم، في أفلام لحقت، وهم يتقدمون في الأعمار فيصير شكري سرحان، فتى الشاشة الأول قاطعا، فيلما بعد فيلم، تلك الأشواط التي ستوصله إلى الكهولة. هذا وكنا، فيما نحن نتقدّم مثله على ذاك الطريق، نبدي ممانعة في مماثلتنا به رافضين أن يكون توالي ظهوره وكبره مرآة لما نعبر فيه نحن أيضا.
أليس هاجس الحكايات العربية ذاك، هاجسنا نحن أيضا؟
الكتب المذكور بعض عناوينها هنا، وكذلك كتب أخرى من تراث الحكايات العربية بدأت دارالجمل نشرها في 2015. السطور أعلاه أملتها قراءة بعض منها.
روائي لبناني

m2pack.biz