الكاتب التونسي صلاح الدين بوجاه التجريب فتح لعالم روائي جديد

الكاتب التونسي صلاح الدين بوجاه.. التجريب فتح لعالم روائي جديد

الكاتب التونسي صلاح الدين بوجاه.. التجريب فتح لعالم روائي جديد

صلاح الدين بوجاه وجه من أبرز الوجوه الروائية التي شغلت الساحة الأدبية في تونس وفي بلدان المشرق العربي خلال العشرين سنة الماضية.
فبالإضافة إلى إصداره لثمانية إعمال روائية وقصصية من بينها ‘النخاس′ و’راضية والسرك’ و’سبع صبايا’ و’النهر قرب المدينة’ أصدر مؤلفات في النقد الأدبي والروائي في طليعتها كتاب ‘مقالة في الروائية’ (المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر/ بيروت 1992 ) وهو إلى جانب ذلك يدرّس الأدب والنقد الحديث بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بالقيروان منذ حوالي ثلاثين سنة. وقد أتيحت لنا فرصة للالتقاء به ومحاورته حول جوانب مختلفة من تجربته الروائية ورؤيته للمشهد الروائي العربي المعاصر، وكان ذلك في مقهى من مقاهي الحي الجديد الناشئ شمال مدينة القيروان حيث مازالت تصمد بعض أنواع النباتات البريّة في وجه الرياح وتمتدّ السّباخ القريبة حالمة بالخريف والمطر ذات صباح من صباحات أواخر شهر آب/ أغسطس الأخير.
القيروان ذاكرة وإلهام للسّرد
* تكاد تكون القيروان- مدينة وريفا- حاضرة في جل أعمالك الروائية.فهل يرجع ذلك إلى الذاكرة الذاتية أم إلى اِختيار ثقافي أشمل؟
*أشير أولا إلى أنني قضيت السنوات العشر الأولى من طفولتي في ريف سيدي فرحات (منطقة ريفية قريبة من مدينة القيروان). وكانت مكتبة الوالد في ذلك الوقت بمثابة غنم كبير بالنسبة إليّ. فكان الريف والصمت والكتب فضاء رحبا مكّنني من الغوص في ذاتي والبحث عن أجوبة خفيّة للإستفهامات الكبرى التي أحاطت بي مبكّرا. أما باقي العمر الذي يتجاوز الأربعين سنة فقد قضيته في محراب القيروان المدينة المفعمة رخاما وترابا وأساطير…
التجريب وأشكال روائية جديدة
* يرى بعض النقاد أن ظاهرة التجريب قد طغت على روايتك الأخيرة ‘النهر قرب المدينة’.فما هي الإضافة التي يقدّمها التجريب إلى النص الروائي في نظرك؟
* إن ظاهرة التجريب ليست جديدة بالنسبة إلى مدوّنتي الروائية. فمنذ نصوصي الأولى في طور الثمانينات من القرن الماضي اِعتنيت بهذه الظاهرة عناية جلية، فأصدرت ‘مدونة الاعترافات والأسرار’ التي تعتمد أسلوب المتن والحاشية ثم أصدرت رواية ‘النخاس′ التي تستند إلى شكل الخبر، ثم تتالت أعمالي الروائية مثل ‘راضية والسرك’ و’سبع صبايا’ و’النهر قرب المدينة’ فاستقر عندي شكل روائي ما يجمع بين القديم والجديد ويعتمد التجريب ويستند إلى فتوح السوريالية.
في تقديري أن جملة المظاهر التي تختزل في غياب ملامح الروائي وتداخل الشخصيات وتشعب الأحداث تفضي جميعا إلى رؤية مخصوصة للعمل الروائي . لذلك أعتقد أن التجريب يسهم في بلورة أشكال جديدة تغني الرواية وتضيف إليها الكثير . ويمكن أن نؤكد أن كل عمل جديد من هذه المحاولات الروائية يعتبر تجربة خاصة بل يقوم على الإستناد إلى تجربة خاصة
وفي تقديري أيضا أن الرواية عموما هي فن التجريب، فكل نصّ روائي جديد يستند إلى رؤية جديدة يبلور ملامحها ويتوق من خلالها إلى التمكن من بلورة عالم جديد يجمع بين الفنّي والدّلالي. وفي الإمكان العودة إلى كتابي ‘مقالة في الرواية’ الصادر ببيروت منذ أكثر من عشرين سنة لتأكيد هذه الفكرة. فالتجديد ليس مرغوبا فيه في ذاته إنما هو باب من أبواب الإضافة التي يبحث عنها الكاتب والقارئ معا . لهذا في الإمكان أن أضع أعمالي الروائية ضمن مسار تونسي يمرّ بحسن نصّر وعزالدين المدني والبشير خريّف، والمدوّنة شاهد على ما أقول .
المزج بين الواقعية والرمزية
* يلاحظ القارئ لمدوّنتك الروائية أنك تراوح بين النزعتين الواقعية والرمزية . فهل يعود ذلك إلى اِختيار فنّي وأسلوبي ؟
* إن المراوحة بين الواقعية والرمزية خيار فنّي صريح . فالكتابة عندي سليلة تجارب قديمة تعيدني إلى البدايات مع كرم ملحم كرم ومحمود المسعدي إضافة إلى الروائيين التونسيين المعاصرين. كما أعتقد أن المدوّنة الروائية المصرية المعاصرة كانت أيضا ذات أثر فعلي في أعمالي ونصوصي بدءا بنجيب محفوظ ثمّ صبري موسى إلى جانب محمد البوساطي وخيري شلبي وأسماء أخرى عديدة يمكن أن يعود إليها القارئ باحثا عن جذور هذه السّلالة.
إن الواقعية والرمزية من المستندات الواضحة في كتابة الرواية عندي والحق إنني لا أجد غضاضة في الجمع بين المتباعدات بل أجد فيها نكهة خاصة وليس للواحد منا إلا أن يعود إلى مدوّنة روائية معروفة هي مدوّنة أمريكا الجنوبية حيث يتجاوز الرمزي والواقعي والأسطوري- السحري.
إنني أرجع الأمر بالنسبة إليّ إلى طفولتي التي تفتّقت رؤاها حول مقام الولي الصالح ‘سيدي فرحات’. فقد كانت نساء الأسرة تمجّدن خوارق هذا الولي وأغلبها من صنع خيالهن بينما يقبل الوالد بالنصح بالعودة إلى المعتزلة وإخوان الصفا والتوحيدي. لذلك اكتشفت أنه بإمكاني أن أعبر عن المتناقضات بل سعيت جهرا الى الإمساك بالمتباعدات لأنني أعتقد أن إثارة الإشكالات الرئيسية لا يمكن إن يظفر بها الكاتب الا بالإقرار بالكثرة والتعدد والاختلاف والتهجين. فالاختيار القائم على المزج بين الواقعية والرمزية اختيار أسلوبي ولكنه يقتضي مني إعمال شخصيتي ومعارفي الأدبية في اِنتظار ما لا يمكن انتظاره.
جينات … تودوروف ومأساة النص العربي الحديث
* ماهي حدود العلاقة بين الرّوائي والناقد في تجربتك الرّوائية وهل لخلفيتك النقدية والأكاديمية تأثير في نصك الرّوائي ؟
* أعتقد أن تأثير الخلفية الأكاديمية حاضر في أعمالي ونصوصي الروائية رغما عنّي. لكنني أودّ أن أُلفت اِنتباه القارئ إلى أنني قد أخذت ممارسة الأدب بداية من السادسة اِبتدائي وكان الوالد يروي لي قصصا شتّى ويطلب منّي أن ألخّصها أو أضيف إليها، بل أذكر أنني قد نَشرتُ أوّل نصوصي في مجلة ‘الفكر’ منذ السنة الخامسة من التعليم الثانوي وكانت هذه المجلة ذات حضور وقيمة بالنسبة إلى جيلنا وكان يصدرها الوجه السياسي المعروف محمد مزالي.
تدريجيا ومع نهاية المرحلة الثانوية وبداية تعليمي العالي صرت أُرسل نصوصي الى أغلب المجلات التونسية وبعض المجلات في المشرق العربي إلى درجة سمحت لعدد من النقاد اليوم بالقول أنني معروف في المشرق العربي أكثر من المغرب العربي. والحق أن هذه المسائل جانبية، فما يعنيني أساسا هو أن أُواصل الكتابة وأن أنتمي إلى هذا الجيل العربي الّذي تغلب عليه الفوضى بل توجه أغلب أعماله.
لهذا بدأتُ الإبداع القصصي قبل أيّ معرفة أكاديمية وأخذت المعارف بالتدرج تسهم في بلورة شخصيتي. ومن هنا أجدني اليوم حتى في البحوث الأكاديمية التي أشرف على تأطيرها في الجامعة مما يتجنبون المبالغة في الاستماع الى (Gerrad Genette المدارس النقدية الغربية . فمرحبا بجيرار جينات ( ) لكن دون الابتعاد عن خصائص السرد العربي القديم والحديث .Todorov وتودوروف (إنني أعتقد أن غياب نظرية فلسفية ونقدية عربية صرفة هو الذي يجعل النصّ الروائي غير مستند إلى أُسُس قوية فكأنما هو نص مبتور أو نص يتيم لأنه من ناحية لا يستند إلى نظرية فلسفية عربية ومن ناحية ثانية يصعب عليه الاستناد إلى نظرية فلسفية غربية . في حدود هذا الإشكال تبرز مأساة النص العربي الحديث .
أثر الرواية المصرية
* يرى بعض النقاد أن الرواية العربية المعاصرة مازالت تخضع إلى سطوة الروائيين المصريين . فهل تؤيد هذا الموقف ؟
* أنا أعتقد أن الرواية العربية اليوم في مستهل الألفية الثالثة رواية متعددة قائمة على جذور مختلفة منها أولاً الرواية المصرية ومنها رواية المغرب الأقصى، إضافة إلى بروز العديد من الأصوات الخليجية خاصة في مستوى الروائيات السعوديات…و إذا أضفنا إليها تعدد المراكز العالمية مثل اليابان ونيجيريا وأمريكا الجنوبية على سبيل الذكر اِكتشفنا أنّ الكثرة والتعدد يخصان النصوص السردية المعاصرة.
لذا لا يتيسّر أن نعيد المسالة إلى حضور الرواية المصرية فحسب إنما هي من جملة الجذور الفاعلة في الخطاب الحديث . وأرى أن الكاتب يحسن إلى نصه إذا ما جعله مهرجان ألوان تُفضي كلّها إلى المزيد من الاستفهام…
حضور الرواية التونسية عربيا
* كيف تنظر إلى حضور الرواية التونسية في المشهد الروائي العربي المعاصر ؟
* يعيدني هذا السؤال إلى مقولة لصبري حافظ حول روايتي ‘النخاس′ حيث قال أن هذه الرواية التونسية تؤرّخ لبداية حوار بين النصوص التونسية والنصوص العربية في المشرق . وأعتقد أنه كان على صواب لأن تاريخ ظهور هذا النص (1994) قد أكد أنه مقروء في المشرق أكثر من المغرب العربي. ذلك ما ييسر لنا أن نقول أنه يحاور النصوص العربية المشرقية باسم النصوص التونسية.
روايات السجون والإبداع الروائي
كيف ظهرت في تونس بعد الثورة بعض الكتابات الروائية تستمد أحداثها من تجربة السجون تحت نظام الحكم السابق . فكيف تنظر إلى هذا النوع من الكتابة السّردية ؟
أنا لست مع الأعمال الحينيّة ولا أعتقد أن الفنّ القصصي يستجيب إليها . لكنني أشجع على ظهور نماذج جديدة من السيرة الذاتية.
إن العمل الروائي يختلف تماما عن العمل السياسي. فالعمل الروائي بحث في المتغيرات أما العمل السياسي فتأكيد للثوابت، ولعلّي أُلفت الانتباه إلى رواية صدرت لي منذ أكثر من عشر سنوات (دار الآداب بيروت) هي ‘راضية والسرك’ وهي تغوص في واقع السّرك الذي هو واقع الفوضى التي نمرّ بها في أيامنا هذه . إننا إذا مازحنا القارئ وتحدثنا عن موجات صوتية أو ضوئية اِكتشفنا معه أن العمل الروائي يعبر إلينا من خلال موجات واسعة بينما تعبر إلينا البديهيات السياسية من خلال أمواج ضيقة بحيث يبقى الاستفهام الأكبر من خصائص الأديب والوقوع في الاستفهام الأصغر من خصائص السياسي.
Ammar ouni G yahoo.fr
‘ كاتب وباحث تونسي

m2pack.biz