المُتلقي وتقنيات العمل الإبداعي.. الخدعة السحرية وتكنولوجيا الإخفاء
■ ما تصنعه السينما من وقائع وأحداث مقنعة للحواس البشرية، يحتاج إلى إعادة قراءة، بما تعنيه الوقائع والحقائق، خاصة أنها تستخدم تكنولوجيا عالية ومتنوعة لتنقل لك الصورة المتخيلة أو المتوقعة عن السيناريو، بما يقنع المشاهد، على الرغم من أن هذه الأحداث غير موجودة على أرض الواقع كمثال، سلسلة أفلام حرب النجوم، هاري بوتر، ملك الخواتم، وسلسلة أفلام الرعب مثل saw، والمسلسلات بأنواعها مثل «خارق» super natural، وصولا إلى لعبة العرش وليس انتهاء بها. السؤال هنا: بعد أن يكتشف المشاهد أن ليس كل ما تراه عيناه على الشاشة، يظهر أمام الكاميرا؟ لكنه مصنوع بدقة لإقناعه بأنه موجود، هل سيشكّل ذلك فارقا في تلقيه ومدى قناعته؟ أم أن الحواس تكتفي بأن تصدّقَ ما تصدّق في تلك اللحظة الماضية ومدى جودتها وقدرتها على اختراق حاجز الإدهاش؟ قد تصاب بخيبة كبيرة مثلا لو أنك تكتشف على سبيل المثال، أن الفيلم الملحمي التيتانيك عبارة عن ألعاب ومهارات وخدع بصرية ضرورية خاصة مشاهد غرق السفينة وركاب السفينة الأشدّ تأثيرا، وإن الماء البارد الذي تجمد فيه «جاك» الذي أدى دوره ليوناردو ديكابريو بينما هو يودّعُ محبوبته «روز» التي أدت دورها كيت ونسليت، ما هو إلا ماء في مجموعة أحواض، درجة حرارته منخفضة! نعم نحن ندركُ أنها صناعةٌ، لكن مع الكشف عن كل هذه الخبايا، هل ستظل القناعة نفسها لدى المشاهد/المتلقي؟
فن الخداع
هناك الحاجة إلى التصديق، وإدخال الخدعة أو الكذبة إلى رأس المشاهد وجعله يصدقها، وهو بذلك فن بذاته، لكنّه فن يخادع بمهارة، يفهم كيف تعمل الحواس، كيف ينظر الإنسان، كيف يسمع، وكيف يشعر، ثم تقدم له معالجات دسمة متكاملة، لا يمكن لها أن تنكشف بسهولة، فهي مصاغةٌ لتشبه واقع المشاهد وحقيقته، حتى إن كانت تنتمي لواقع آخر أو لحقيقة أخرى، غير موجودة في واقع المشاهد، ومع ذلك هي ستبقى مذهلة ما دامت ستكون مرتبطة ارتباطا وثيقا بوعي المشاهد، على أنها عملية معقدة وصعبة، ومثار للتساؤل، إذ أن جزءا من استمرارية الإدهاش لفترات طويلة، هو في حقيقته يعود إلى التساؤلات التي يتركها الفيلم أو المسلسل، بما قدمه من نص ٍ أو مشهد، ككل أو جزء، والجواب لهذه التساؤلات هو بمثابة إيقاف عجلة التلقي واللذاذة.
زمن اللعبة
إن الزمن الفني الذي تعيش فيه الشخصيةُ، انتقل إلى الزمن الذي يعيش فيه المشاهد، وأصبح جزءا من تاريخه اليومي والحياتي، وكلما استعاده وفكر به، هو في الحقيقة يستدعيه من ذلك الزمن إلى المكوث معه والعيش معه، حتى أنه يتجدد معه بصيغ مختلفة، ففي كل مرة سيفكر فيه، ستنبعث أفكارٌ مختلفة، فمرة سيناقشه مع نفسه، ومرة سيتحدث عنه، ومرة سيحدثونه عنه، ومرة سيتحدث آخرون أمامه عنه، وفي كل هذه المرات هو يستعيده في حياته وفي ذاكرته، ويراه بوجه جديد، ينشط وجوده في واقع المشاهد. إنه استدعاء فعلي وليس رمزيا كما يُرى للوهلة الأولى، مادامت ستكون هناك علاقات وثيقة، مع المتلقي، وستقوده هذه النقاشات والأفكار في يوم ما، إلى اعتماد تصور معين، ينتج عنه سلوك معين، وهذا السلوك سيخبرك بأن تلك الشخصية الفلانية، أو ذلك المشهد، إنما هو موجود، وإن لم يكن في الهيئة نفسها، فإنه اتخذ هيئة أخرى، ترتبت عبر مجموعة متشاكلة من العلاقات والأشياء المرتبطة ببعضها، إذن هي مغامرة لا تختلف عن القراءة والكتابة والممارسة اليومية، لا تختلف عن المزج بين الواقع والفانتازيا. أمبرتو أيكو في كتابه «اعترافات روائي ناشئ» يشير إلى أن الأمر لا علاقة له بوجود الشيء من عدمه، بل إن هذه الشخصيات التخييلية في الروايات والأفلام تؤثر على المشاهد/ المتلقي، ويبكي من أجلها، ويتفاعل معها، ويتأثر إلى درجة أن هناك قراء انتحروا بسبب روايات مثل رواية «آلام فارتر» لغوته، وبكوا من أجل آنا كارنينا، بطلة رواية تولستوي، وإن سبب ذلك يعود، وفق مواضعات سردية، وتهيئة المتلقي لنفسه في الدخول إلى عوالم ممكنة لقصصهم، كما لو أنه عالمه الواقعي، ويستعير إيكو قول العالم العربي ابن سينا: «إن الوجود ليس سوى خاصية عرضية لجوهر أو مادة» لتوضيح فكرته، مثل الزاوية القائمة، التي لا وجود لها في الواقع، لكنها دائمة الوجود. بمعنى أن الفارق بين وجودنا، أننا موجودون فيزيقيا، لكن هذه الشخصيات ليست كذلك.
أدوات الساحر
الإهمال المتعمد لجانب التصديق والإقناع، ومدى التأثير النفسي والعقلي الذي يتركه الفيلم على المشاهد، عبر الكشف عن جزئيات العمل الغامضة، وتفكيك الضبابية المبررة داخل وخارج الكاميرا، وفضح كل مضامين العمل الفني، تضعه في خانة المشكك، ومن ثم تُخرجهُ من الحلقة التي يمتزج فيها واقع الفيلم بواقع المشاهد، إلى واقعه فقط، وبذلك يخسر المشاهد تلك اللحظة الأبدية التي تملكته، وتجلّت فيه على شكل لحظة غامرة بالنشوة والارتقاء، وتفقد بريقها السحري والحلمي، إلى المنطقية الرتيبة، وهي ما اعتادت عليه حالة المشاهد الذهنية. فالخلل يكمن في أي مجال فني، بأن تكون الأدوات ظاهرة على الأداء الفني، بينما الأدوات في النص الأدبي وفي العمل السينمائي وفي أي عمل إبداعي، يجب أن تظل في طور الاحترافية العالي، الذي يمزج بين الخبرة والصدق، فلا يميل إلى الخبرة فيصير آليا ولا يميلُ إلى الصدق فقط فيكون واقعيا ساذجا أكثر مما ينبغي ومليئا بالمباشرة.
بمعنى آخر إنني كمشاهدٍ/متلقٍ، يجب أن لا أرى تحركاتك بارزة أمامي وأنت تصنعُ تحفتك الفنية! إذ أنني أريد أن أصدّق بأن التنين والغيلان والديناصورات والسفن الفضائية والمخلوقات العجيبة المرعبة والأصوات والمعارك الطاحنة والجيوش الجبّارة والشخصيات الروائية المتخيلة موجودة بطريقة ما، ويجب أن لا أعرف الطريقة، فلتبقَ غامضة، هكذا سأظل مفتونا مدة أطول، على اعتبار أن هذه المخلوقات والأشياء الخارقة للطبيعة أو المنقرضة، لها وظيفة داخل العملية الإبداعية، وإن خللا ما إذا أصاب أحد عناصر المادة الإبداعية، فإنها ستظهر مشوهة وغير متكاملة، وعندما تدخل إلى واقعية المشاهد وزمنه، فإنها ستظل تاركة الانطباع المشوّه نفسه في كل مرة يتذكره، أي أنه سيترك صورة مناقضة لتلك التي لو شاهد فيها فِيلما أعجبه.
كشف الورق
وفي العودة إلى إيكو وكتابه «اعترافات روائي ناشئ»، كان هذا الكتاب عبارة عن مجزرة في كشف الأسرار، خاصة الأعمال الروائية التي كتبها إيكو نفسه، متنقلا فيها من روايته «اسم الوردة» والحديث عن الدير الذي جرت فيه الأحداث، إلى روايته «بندول فوكو»، إلى أبطال رواياته الذين ظنَّ القرّاء أنهم موجودون حقا على أرض الواقع، وأخذ بعضهم بمراسلة الكاتب وسؤاله عن بعض الشخصيات والأمكنة الواردة في رواياته، حتى أن بعضهم وجد شخصيات وكتبا وأمكنة مشابهة لما هو موجود في الرواية وظنّوا أنها نفسها، كما يتضح من خلال رسائلهم إلى الكاتب.
إلا أن إيكو فضح أسرار شخصياته بالكامل وطريقة عملها، وكيف ابتنى رواياته وكيف جمع مادته الروائية وعلى ماذا اعتمد في سرده من تقنيات، وبمَ استعان، إلى غير ذلك بالتفصيل، مع الرد على بعض هذه الرسائل. قد يرى البعض أنه أحبَّ قول الحقيقة فقط، لكنَّ الأعمال الفنية ليست مضطرة أن تتحدث عن حقيقة صنعها وكيفيات تكوينها، بل مضطرة أن تقول حقائق أخرى عبر مضامينها الفنية فقط.
٭ كاتب عراقي
المُتلقي وتقنيات العمل الإبداعي: الخدعة السحرية وتكنولوجيا الإخفاء
مهند الخيكَاني