المصابيح الزرق انطفأتْ من زمان
كنا صغاراً، وكانت «الحسَكَة» كبيرة. كبيرة جداً علينا. كنا ثلاثة: هشام وعوّاد وأنا. هشام قوميّسوري متحمّس، نحيف، متوسط الطول، رأسه صغير لا يتوقف عن الحركة. وعوّاد شيوعي متحزّب، طويل، بشرته بيضاء، يحفظ الكتب التي يقرؤها غيباً. يمشي وهو يكتب كل ما يخطر له على الريح مباشرة. صار خَطّاط السينما الوحيدة في المدينة فترة من الزمن. وأنا القادم من بادية الشام، أسمرمحروق، أقدامي شبه حافية، جسدي نحيل، لونه سَماديّ مثل عود خارج من تحت الرماد، ولذا لَقَّبني الطلبة «بالهنديّ» منذ أن رأوني. وبسبب وضعي المادي المزري، كنت ذا نزعة ماركسية ولكن بدون ارتباط حزبي محدد. هشام كان الأكثر ثقافة بيننا. هو مَنْ يمدّنا بالمنشورات والكتب والمجلاّت والأخبار الثقافية. «المشّاؤون الثلاثة» كان اسمنا. كنا نتَقاوَد في شوارع «الحسكة» المليئة بالأتربة والحثالات وضجيج الحيوانات الثاغِية وهي تُذبَح، وتُسلخ أمام العابرين، لتتحوّل إلى «كباب» لذيذ تدوُّخنا رائحته، فنصير نتلَمَّظ جوعى ولُعابنا يسيل. عوّاد يحفظ الكتب التي يقرؤها. وهو غالباً ما يردد بصوت عالٍ، ونحن نمشي، مقولات «نيتشه»، وبالخصوص تلك التي يُرتِّلها بشغف: «أجلد نفسكَ، وابنِ بيتكَ فوق فوهة بركان»!
كنا نقطع شوارع المدينة الصغيرة التي أُنشأتْ على أطراف البادية محطّة للعبور بين بادية الشام والأناضول، ولا تزال «ثكنتها» التاريخية تهيمن على فضائها الشاسع. نقطع شوارعها المرمية بين ضفاف «الخابور» وشارع «فردوسا» العتيد عشرات المرات قبل أن نفترق. كانا يسكنان في قلب المدينة، أما أنا فأسكن في خيمة سوداء مرمية في مكان مهمل كثير الحُفَر والفجوات. سيصبح، في ما بعد، حَيّاً هامشياً، اسمه : «غُوَيْرانْ» نسبة إلى حَفائر الجِصّ، والأحجار، والمغاور القديمة، ومقالع الكِلْس. فيه سنبني داراً صغيرة من الطين. وأمام هذه الدار التي لا تعلو عن مترين، سنبني كوخاً. هذا الكوخ سنجعله مقراً ل«رابطة أدبيّة» أنشأناها بإصرارنا. فيها سنقيم حلقات نقاش «بدائي» حول أعمال تهمّنا، ولو لم نفقه شيئاً منها، مدفوعين بحُمّى معرفيّة هي «الرغبة في أن نكون». وكان ذلك «الجهل»، وحُبّ العلم والحرية، كل متاعنا الفكري آنذاك. وإحدى هذه الحلقات كانت لرواية «المصابيح الزرق».
ذات يوم، جاءنا هشام مبتسماً، وفي يده كتاب. وهجمنا عليه: ما هذا؟ قال بتعالٍ: رواية جديدة. وفرحنا: رواية؟ قال: ويبدو أنها «تحفة». تسابقنا لننال حظْوة الإمساك بها ولمسها. وعلى غلافها قرأنا الاسم معاً، وبصوت واحد: «المصابيح الزُرْق»! حنّا مينه! ورحنا نقلِّب صفحاتها، واتفقنا على قراءتها ومناقشتها في مقر«الرابطة». في العراء بالأحرى، لأن «الكوخ » لا يتسع لشيء، وقد استخدمناه فقط للإعلان، حيث ألْصقْنا فوق حائطه الواطئ، لوحة كبيرة: «الرابطة الأدبية» في الحسكة. كنا سعداء وأحراراً. لم يعلِّمْنا أحد كيف نقرأ كتاباً، ولا كيف ندير فكرة، ولا كيف نصغي إلى مَن يحاورنا. الحرية المتجذِّرة في نفوسنا التي لم تكن تخشى رقيباً، آنذاك، هي التي كانت ترسم لنا الطريق: طريق التطوّر الضروري نحو الأفضل. يومها قضينا أسابيع طويلة مشحونة بالعراك اللفظي المثير، ونحن نناقش «المصابيح الزرق». ولم نصل إلى نتيجة، مع أننا لم نكن مختلفين. كان البحث هو ما يحركنا، وليس الإقناع. البحث عَمّا لم يقله الآخر، أو لم يسمع به، أو لم يفكِّر فيه، أو.. وهو طريق بلا نهاية، كما سندرك في ما بعد.
بعد فترة من ذلك النقاش المحتدم حول «المصابيح الزرق» جاءنا هشام مبتسماً وفخوراً، هذه المرة، وبيده رواية جديدة: هذه ستذهلكم! قال. وأضاف متبجحاً: لم أقرأ مثلها من قبل. وتلَقَّفْناها. كانت لنجيب محفوظ. وبدأنا نتهيّأ لمناقشتها. لم يعد كوخ الرابطة يكفينا. صرنا نشْرد في بَرّ المدينة ونحن نتَصايح متجادلين. ومنذ أن قرأنا نجيب محفوظ تجاوزنا «المصابيح» حتى كدنا أن ننساها. بعد ذلك، قرأنا ما لم نكن نحسب أننا سنقرؤه ذات يوم. وسريعاً خَبا وهج حنا مينه في نفوسنا، أو كاد. كان يلائمنا عندما كنا صغاراً، لأن الأيديولوجيا كانت سَقْف تفكيرنا. ومنذ أن تمرَّسْنا بالقراءة والأحداث، تغيَّرت الحال.
كنا نلاحق التطوّرات العاصفة التي تدور حولنا منغمسين فيها، حتى لو لم يكن لنا دَوْر فعّال. كانت سوريا في مرحلتها الديمقراطية التي لن تتكرر. كان ذلك قبل أن يفترسها عَهْد «تفريغ الكائن» الذي سيدمِّرها ثقافياً أولاً، ومن بعد سياسياً واجتماعياً. وهدف الاستبداد، دائماً، هو تحطيم الدائرة المعرفية أولاً، ومن بعد الدوائر الأخرى. هذا العهد المشؤوم هو نفسه الذي احتضن صاحب «المصابيح الزرق» بعد أن فَرَّغه من جوهره. ومن المؤسف أن صاحب «المصابيح» رَضِيَ بأن تُطفئ سلطة القمع والطغيان «مصابيحه الزرق» منذ أن قَبِلَ بأن يواليها، ويصبح مستشاراً لا يستشار في وزارة ثقافة بلا ثقافة، بدلاً من أن «يظل في عرينه مستشار الثقافة الإنسانية الذي عرفناه في البدء». وهو ما سمح لتلك السلطة الغاشمة أن تُحوِّله إلى صورة باهتة للروائي القديم الذي كان.
٭ روائي سوري
المصابيح الزرق انطفأتْ من زمان
خليل النعيمي
نتمنى للسوريين الاشراف حق امتلاك هويتهم وبيتهم وراحتهم وحقوقهم الكاملة ,, نتمنى والامر ليس بيد الانسان اللا مدرك واللامبالي,, نحيك فكتاباتك واسلوبك المتغير دائما ظاهره بما قدمته وتقدمه لمتابعي القراءه ,, الم يحن الوقت لطباعة الجرائد الورقيه السيئه واستبدالها باوراق اجود واقل تكلفه من اوراق المجلات وافضل جودة من التي هي عليها اليوم , بالبلاد العربيه المعنيه عليها دعم الجرائد الورقيه للحفاظ على تراث سكان بلاد الشام الذين تعودوا واحبوا تجربة متابعة الجرائد كالازمنه السابقه ..