أسئلة الكتابة والهوية… حوارات مع أحمد المديني
أحمد المديني شاعر وقاص وروائي ومترجم ناقد، علاوة على أنه كاتب سيرة، وذو مشاركات متعددة في أدب الرحلات، وإذا تجاوزنا مولده في برشيد على كثب من الدار البيضاء 1949 ودراسته في فاس 1978 وفي باريس 1990 وإقامته فيها ما يناهز الثلاثين حوْلا، وصف لنا رحلته فيها في كتاب وسمه بعنوان «نصيبي من باريس» 2014 نهج فيه نهج من سبقوه من أمثال رفاعة رافع الطهطاوي؛ وأحمد فارس الشدياق، وطه حسين، ومحمد حسين هيكل، وتوفيق الحكيم، وغيرهم من رواد النهضة الأدبية في الجيل الماضي. نقول: إذا تجاوزنا هذا كله، وتجاوزنا علاقاته بالعديد من الأدباء الذين تتلمذ على يدهم في السوربون، فإن من اللازم التنويه لنقطتين أولاهما: تنوع نتاجه الإبداعي بين القصة القصيرة، والرواية والبحوث الجامعية، والترجمة من الفرنسية إلى العربية، إلى الحوارات، فإلى أدب الرحلات ابتداءً من «كتاب الضفاف» 2002 وانتهاءً بكتاب «نصيبي من الشرق» 2015 فإلى الشعر، وهو النوع الأقل عددًا في عطائه الإبداعي الموصول، فليس له فيه إلا ثلاثٌ من المجموعات أولاها بعنوان «أندلس الرغبة» 1982 والأخيرة «بقايا غياب» 2003.
أما النقطة الثانية التي لا تفوتنا الإشارة إليها،فهي رسوخ قدميه في هذه الفنون جميعًا. فإذا قرأ القارئ قصصه القصيرة ألفاه كاتب قصة متخصصا في هذا اللون، ومن يقرأ له رواية «طائرُ الغريب» مثلا يحسبه روائيا في المقام الأول.. ومن يقرأ له ما يكتبه من نقد أدبي، سواء في كتبه المنشورة، أو في مقالات قصيرة تظهر من حين لآخر في هذه الصحيفة السيارة، أو تلك، يظنه ناقدًا متخصصًا دلف إلى النقد من دائرة الإبداع، ومن رواق الموهوبين، إذ يبدو في نقده كمن يعظ بما يعمل به، ويؤمن فيه. علاوة على هذا كله، دأب المديني في السنوات الأخيرة، على جمع الدراسات وتبويبها وتحريرها، والإشراف على طبعها ونشرها، تذكيرًا بالراحلين، أو غير الراحلين، من كتاب المغرب الشقيق، فقد نشر كتابًا جمع فيه دراسات عن الشاعر أحمد المجاطي (2015) وآخر جمع فيه دراسات عن القاص والروائي محمّد زفزاف (2017).
قدوة
وكاتبٌ كهذا، قمينٌ أن تلتفت إليه الأنظار، وترنو إلى موقعه الأبصار، ليحظى بعناية الدارسين، ونقاد الأدب المتابعين والمتمكنين، وجامعي السير، ومدوني الأخبار، وناشري الحوارات، التي تسبر غور الإنسان المبدع. ولأن الشاعر الناقد نضال القاسم خطا خطواتٍ واسعة عدة في هذا الميدان، أعني ميدان العناية بالتراجم الأدبية، والكشف عن أغوار الذات، جاء كتابه هذا عن المديني واسطة العقد الفريد، وجوهرة متْنه الحواريِّ الجديد.
الأدب والأيديولوجيا
والكتاب الذي صدر عن الدار الألفية للنشر والتوزيع في عمان في 170 صفحة يتضمن خمسة حوارات مع المديني يتطرق في الأول منها (نشر في «القدس العربي») لموضوعات حيوية كالنقد الأدبي، ومناهجه، وعلاقة الإبداع بالفكر السياسي، وبالأيديولوجيا؛ فالأيديولوجيا، والخطاب السياسي، والمثُل الأخلاقية، خطاباتٌ مستقلة، لها مظانها الخاصة. ولكنها تتخلل النصوص، وتجري في عروقها جريَ الدماء في أوردة الكائن الحيّ وشرايينه. لكن الشيء الذي يُحذِّرُ منه المديني هو أن تُفْرض هذه الخطابات على النصوص فرضًا في غير قليل من التعسُّف والإكراه، فعندئذ ينقلب الأدبُ إلى ضرب من الترويج السياسي وذلك يضفي على الأدب سطحية تفرغه من مضمونه العميق، وتسيء إلى بنائه الرشيق الأنيق، وتنأى به عن جماليات الفن السامي الرفيع، لذا يرى المديني في ما كتبه توماس بافل، وإيان واط، عن الرواية، نهوضًا وفكرًا، دراساتٍ جيدة، يأتمُّ بها في موقفه من الأيديولوجيا في الرواية.
تمدُّد
ويتصل حواره الثاني مع القاسم بأسئلة تنصبُّ أساسًا على خفايا الشخصية الإبداعية المتفردة للمديني، فهو مثلما ذكرنا سابقًا- يجمع بين الشعر والقصة والرواية والنقد الأدبي والترجمة، جمعًا يبدو مثيرًا للأسئلة، فكيف يوفق بين هذه التجارب المتشعبة والأجناس المختلفة، المتباينة، المتعددة، بحيث تبدو منسجمة لا يضعف المبدع في أحدها، ولا تفتر همته في بعضها لحساب نوع ثان، ولا يبدو منحازًا لجنس منها على آخر، أو تطغى قدراته على فن منها بدون فن. فهو بكلمة وجيزة، لم يذهب في هذه المسارات قصدًا، ولا هو ماضٍ فيها عنادًا وعمدًا. فهي مساراتٌ كبيرة، وقد وجد نفسه يخوض فيها خوضًا يوزع ذاته في جُسوم كثيرة: القصة، والرواية، والسيرة، والنقد، والرحلة، والترجمة، وشاهدُه في ذلك كله ما قاله المتقدمون من أن لكل مقام مقالا، وأن لكل شأنٍ مجالا، فكتب الشعرَ مندمجًا في النثر، وكتب القصة مندمجة بالرواية، والرواية في إهابِ السرد القصصي، ونزع في ترجمته، ونقده، لما يتصادى مع مطالب الذات في حرية التعبير، ودقَّته.
رواية وتراث
وفي الحوار الثالث يتجاوز القاسم الذات إلى الرواية، بصفة عامة، وإلى آفاق الحداثة فيها بصفة خاصة، وإلى المثقف، ومسؤولية الحرف، وعلاقة المثقف المسؤول بالتراث، ومدى تأثره به، وتوظيفه له في نتاجه الإبداعيّ التوظيف الذي يعود على قارئه بالجم الكثير من الإحساس بأصالة الأديب في ممارسته لأي جنس من الأجناس الأدبية نثرًا وشعرًا. وفي هذا السياق ينوه المديني لمحاولات التونسي عز الدين المدني في نموذج من سرده القصصي، وهو ثورة صاحب الحمار، وأيضا ديوان الزنج، وأخيرًا حكايته الموسومة بعنوان التربيع والتدوير. وهي محاولاتٌ رصد فيها المدني أوضاعًا عاشها العرب في ما غبر من الزمان. ولا تفوته الإشارة لرواية جمال الغيطاني «الزيني بركات» التي تروي وقائع تعود بنا إلى حقبة من تاريخ مصر زمن المماليك. ويشير أيضا لرواية «وقائع حارة الزعفراني» للكاتب نفسه، فهي تروي وقائع مستوحاة من التصوف الإسلامي. وتوظيف التراث في السرد الروائي شيء لا تخلو منه روايات المديني، فهو يذكر في حواره رواية «وردة للزمن المغربي» 1978 على أساس أن فيها بعض المرويات القديمة المقتبسة اقتباسًا من الموروث الثقافي. ويضيف مشيرا لرواية «الجنازة» 1997 ورواية «مدينة براقش» 1998 ويشير لكتاب آخرين عمدوا للإفادة من الموروث السردي، ومن هؤلاء بنسالم حميش، وأحمد التوفيق، إلا أن هذا النسق السردي يتراجع في أيامنا، وينحسرُ، لما نشهده من عناية الروائيين بالزمن الراهن.
وفي الحوار الرابع يدلف بنا القاسم لعالم المديني الروائي، فكيف انتقل هذا الكاتب من القصة القصيرة إلى الرواية؟ وأي النوعين الأدبيين أكثر ملاءمة لقدراته ومواهبه؟ وأيها أكثر دقة في التعبير عن أفكاره وهواجسه؟ وهل استطاع أن يحقق في رواياته ما عجز عن تحقيقه في القصص القصيرة؟ وما هو موقعه من حيث هو روائي في المشهد الروائي المغربي الذي أطل على الساحة برواية عبد المجيد بن جلون «في الطفولة» (1956) وانتهت حلقات سيرورته في منتجع التجريب؟ في الحوار الخامس يجد القارئ نفسه أمام تساؤلات عدة غايتها اكتناه التجربة الروائية لدى أحمد المديني، وتتجاوز ذلك لاكتناه التجربة عند غيره. فالمديني يلح على ضرورة تحرر الكاتب الروائي وتفلته من أناه، وألا يكون لشخصيته أي حضور في الرواية مباشرا أو غير مباشر. وإلا فهي في هذه الحال أقرب إلى السيرة الذاتية منها إلى الرواية.
ولا يحسبنَّ أحدٌ أن المؤلف القاسم يقتصر في هذا الكتاب على حواراته الخمسة، فقد أضاف إليها مقدمة ضافية وافية، تجيب عن كثير من التساؤلات التي تساور القارئ، فمن هو أحمد المديني؟ وما النوع الأدبي الذي غلب على عطائه حتى أصبح لصيقا به، معروفا فيه؟ وما حجم عطائه في الشعر والقصة والرواية والنقد والترجمة وغير ذلك من فنون؟ فعرض في تقديمه لما جادت به قريحة المديني من قصص قصيرة عرضًا لا نجافي الواقع إذا قلنا إنه عرض سريع، يتجنب الخوض في المزيد من التفاصيل، التي تقف بنا عند كل قصة وكل مجموعة قصص. وهذا دأب القاسم في تناوله لعطاء المديني في الشعر والنقد والرحلة والسيرة. وعذره أن التقدمة للحوارات ينبغي لها ألا تنقلب إلى دراسة علمية شاملة لا تترك صغيرة ولا كبيرة، ولا شاردة أو واردة، إلا وتقف عندها وقفة الدارس الممحِّص، الذي يحلل النصوص تحليلا ينتهي منه بتقيم ينصف فيه الكاتب ذاكرا ما له وما عليه.
٭ كاتب وأكاديمي أردني