«العرب والإسلام في مرايا الاستشراق» لبنسالم حميش خبراء عرب وأجانب تربطهم بالظاهرة الإسلامية علاقة انجذاب ونفور في آن

«العرب والإسلام في مرايا الاستشراق» لبنسالم حميش.. خبراء عرب وأجانب تربطهم بالظاهرة الإسلامية علاقة انجذاب ونفور في آن

«العرب والإسلام في مرايا الاستشراق» لبنسالم حميش.. خبراء عرب وأجانب تربطهم بالظاهرة الإسلامية علاقة انجذاب ونفور في آن

الرباط «القدس العربي» من الطاهر الطويل : يرى المفكر المغربي بنسالم حميش أن أي علاقة مع تاريخ الاستشراق، الآن، تتأسس على منطق الصدام، قد أصبحت غير ذات مضمون، وبالتالي ليس من المجدي أن نستمر في الرد على طروحات المستشرقين «المغرضة»، كما سمّاها شيوخ ومثقفون مسلمون، منذ منتصف القرن التاسع عشر، أو التصدي لهذه الرؤى الخاطئة عن طبيعة العرب وعقليتهم.
ويوضح حميش في كتابه «العرب والإسلام في مرايا الاستشراق» الصادر عن دار الشروق في مصر، أن الخروج من الموقف الدفاعي سيجدد تعاملنا مع الاستشراق، فيحصره في نطاقه النافع، أو يحوله إلى «موضوع» ندرس من خلاله طريقة تفكير واضعيه.
ويشير المؤلف في مقدمة الكتاب إلى أن المراجعات النقدية الجادة للتراث الاستشراقي في أوساط المستشرقين قليلة، وهي أقل لدى المفكرين والباحثين الموطنيين. فعند أولئك قد نلاحظ حتى خلو الموسوعات المتخصصة وغيرها من مادة الاستشراق، هذا مع أن الكراسي الأولى لتدريس اللغات الشرقية تعود في الجامعات الفرنسية إلى 1245، وأن المؤسسة الاستشراقية بمجامعها ومعاهدها ومجلاتها المتخصصة، بدأت تظهر منذ أواخر القرن الثامن عشر وطيلة التاسع عشر. وقد نجد للمستشرقين عذرا في كونهم يؤثرون عموما الانكباب المتواصل على مادتهم، أو في تصورهم أن العمل النقدي والتقييمي موكول أساسا إلى المتلقين. أما مع باحثينا ومفكرينا، فإن قلة الدراسات النقدية الجادة للاستشراق تشكل ثغرة مكشوفة لا بد من العمل على سدها، وشغورا بينا يجب ملؤه.
ويضيف قوله: إذا ما عطلنا أو أضعفنا تفشي الموقف التجاهلي القائم على ادعاء أن أهل مكة أدرى بشعابها، أو أن معرفة الذات في غنى عن عيون الغير ومراياه… الخ فإن هناك من العوامل ما يبرر ذلك المطلب نظريا وعمليا؛ ذلك أن موضوع (أو ثيمة) الآخر احتلت ولا تزال في تاريخ الفكر، كما في العلوم الإنسانية مكانة مبرزة، نظرا لارتباطها الجدلي بموضوعات أساسية ملازمة: الأنا/ الذات/ الهوية/ المرآة والصورة/ السلوك/ العلاقة… الخ. والغير (مرادف الآخر والآخرين، وهو اسم جمع لا مفرد له) لا بد له في واقع الاجتماع من أن يتبعض، فيصير الآخر (بالمفرد والجمع) الذي نعيش معه تجارب كالقرابة والصداقة والجوار، أو كالمنافسة والخصومة والعداء. وهذه التجارب وسواها تحدد بتنوعها واختلافها طبيعة العلاقات ودرجاتها، إن على صعيد الوعي أو في حقل السلوك والفعل، والعلاقات هي الوشائج والعرى التي تنسجها الاحتكاكات والتواصلات بين الأفراد والفئات داخل المجتمع الواحد، أو بين المجتمعات والثقافات. إن جودة تلك العلاقات أو سوءها وقبحها، غناها أو فقرها، تكافؤها أو اختلالها وعنفها؛ كلها سمات وعناصر يحفل بها مسرح الحياة والتاريخ، وتزود الأجناس الأدبية والمشهدية بمواد خام تقوم فيها ثنائية الذات والآخر مقام المدار الدرامي والمحور المحرك. وبالتالي، فإن موضوع الآخر أو الغير تكتسي صفات الظاهرة الكلية (كما عرف مفهومها مارسيل موس)، أي أنها محطة شبكية متشعبة، تتقاطع فيها موضوعات متعددة ملازمة أو مكملة، وهي التي تهتم بها فلسفات الشعور والوجود والفكر الأخلاقي والقيم، علاوة على العلوم الإنسانية المعروفة. وللتذكير، فقد كان للإسلام الثقافي «مستغربوه» (ولو أنهم من صنف مغاير) و»إغرابيوه» وهم إجمالا أصناف الإخباريين وأهل الجغرافيا والرحلات والسفرات.
ويلاحظ بنسالم حميش أيضا أن دراسة الخطابات الاستشراقية يكفيها تبريرا أن تستمد مشروعيتها من كون الذات (أي الذات الثقافية) لا توجد وتحيا في مجال نظرها أو وعيها بذاتها فحسب، وإنما أيضا في أفق نظر الآخر ووعيه وما ينصبه من مرايا معرفية؛ فكلنا نكون ونحمل صورا عن غيرنا، نضعها قاعدة للحكم والتعامل، إن في حالة السلم والتعاون أو في حالة الصدام والتوتر. والصورة عموما من طبعها أن تروم الترسخ في «الكينونة» أو الجوهر؛ والجوهر ينزع إلى الترسب في محمولات أو خاصيات، والخاصيات بدورها تتراتب فتصير إلى خاصية واحدة مهيمنة قد يمحى معها، عند الحاجة الصراعية، التغير والتعدد، ويضعف في ظل اعتمالها بعد التاريخ.
ثم يقدم المؤلف إضاءات حول مسار الاستشراق وتمظهراته، قائلا: يتبدى الاستشراق بامتياز كنشاط بحثي ومعرفي حول الآخر (العالم العربي والإسلامي) نشاط ظهرت إرهاصاته الأولى طوال القرون الوسطى، واستمر عبر محطات وتفاوتات حتى عهدنا هذا، فراكم في موضوعه أدبيات ضخمة، هي طبعا مختلفة الغايات والمقاصد، متفاوتة الأهمية والقيمة من حيث المنهجية والدراية العلمية.
الاستشراق واقع معرفي، مارسته أوروبا على الشرق، حتى قبل ظهور كلمة «مستشرق» لأول مرة بالإنكليزية في 1797 ثم بالفرنسية في 1799، وقبل تبني الأكاديمية الفرنسية لكلمة «الاستشراق» في 1838. فالمستشرق حسب تعريف أولي متداول هو «العالم المتخصص في معرفة الشرق ولغاته وآدابه»، والاستشراق هو بالذات هذه المعرفة وقد تراكمت وترسخت في تقليد، وانتظمت في نسق له مقدمات ونتائج ويعمل بتقنيات ومناهج مخصوصة.
المستشرقون إلا القليل منهم يعطون الانطباع أنهم ينتمون لمجمع علمي له عصبيته ومناسكه وتقاليده. فالقاعدة العامة أن بينهم يخيم جو من التسامح والتعاضد وحسن الجوار. وحتى حينما يتعدون عن وعي أو لاوعي هذه القاعدة ليتبادلوا الانتقادات أو الطعون، فإنهم يحرصون على أن يبقى ذلك خاصا بهم كأعضاء أسرة واحدة.
إن صورة الاستشراق التي يحسن استحضارها كعينة تجريبية في كل دراسة تركيبية هي:
الاستشراق المكتوب باللغات الفرنسية والإنكليزية وإلى حد ما الإيطالية، نظرا لأنها لغات القوة الرئيسية التي استعمرت البلدان العربية، ثم بصفة تكميلية مساعدة الاستشراق المكتوب بالألمانية والإسبانية.
الاستشراق المتخصص في تاريخ وثقافة الرقعة العربية، بشقيها المشرقي والمغاربي.
الاستشراق المواكب أساسا للفترة الحديثة وبالتحديد لظاهرتي الاستعمار والاستقلال.
ويخلص الكاتب إلى القول، إن الاستشراق عرف لحظات بارزة، بدءا حين كان هو «الجناح الفكري لتجارة المجالات أو للتوسع السياسي» (حسب تعبير بليغ لجاك بيرك) أي في عهد الغليان الاستعماري وإرادة القوة الأوروبية، ثم حين تجدد في فترة ما بعد الاستعمار، أي إبان الاستقلالات السياسية المكتسبة.
كما يستنتج أن مواقف المثقفين العرب من الاستشراق، سواء اتسمت بالرفض المتشنج أو بالتحليل النقدي، لا تتأمل بما فيه الكفاية عناصر الانسداد والتفكك التي انتابت خطاباته وممارساته التقليدية، أولا بفعل تعرض رؤيته الماهوية الثابتية لصدمة العلوم الإنسانية ومناهجها الاستكشافية الحديثة، وثانيا على إثر نقده من طرف مستشرقين مجددين سعوا إلى معرفة العرب من باب إرادة هؤلاء في الحياة والتحرر والتغيير.
أما اليوم فيمكن القول إن الاستشراق إجمالا يظهر كتركة للماضي القريب، أكثر من كونه مشروعا حيا يأخذ على عاتقه هذه التركة ويطورها؛ أو بعبارة أخرى يظهر أنه مع أعلام القرن التاسع عشر والعقود الستة أو السبعة الأولى للقرن العشرين، أعطى أحسن ما عنده، بحيث لا يمكن لخلفه حاليا أو في المستقبل المنظور أن تكون له القوة نفسها أو الفعالية والإشعاع نفسهما، ذلك أن الجيل الجديد من المتخصصين في العالم العربي والإسلامي إلا القليل منهم يظهر قليل الاهتمام بأخذ الاستشراق التقليدي أو المجدد على العاتق، وإمداده بالمزيد من التطور والتعمق.
ويثير المؤلف الانتباه إلى أن الاختصاصيين المحدثين، المتوجهين في معظمهم إلى الدراسات الإنثربولوجية والسياسية والمونوغرافيات القطاعية، كثيرا ما يتحولون إلى خبراء في المجتمع القبائلي والعصائبي، أو خبراء في الذهب الأسود والجيوستراتيجية الشمولية، أو في الحركات المسماة «إسلاموية»؛ ليتساءل: هل نستبشر خيرا بهذا التحول الذي ما زال في طور المخاض أو نتذمر منه؟ فيجيب: إنه لربما من السابق لأوانه إعطاء إجابة محددة شافية، ولو أن بعض مؤشراته تفتقر إلى ضمانات الكفاءة والعمق، لاسيما أن معرفة فاعليه تجنح إلى أن تصير اختزالية ريعية وحاسبة. وهكذا فخبراء «الإسلاميزم» مثلا أجانب وكذلك عرب، ولو أنهم ينكبون على موضوعهم معظم وقتهم، يظهرون وكأنما تربطهم به علاقة الانجذاب والنفور، منجذبين إليه، تراهم يركزون على تياراته الصلبة المتطرفة، فيبوؤونها الصدارة على حساب كل ما سواها، نافرين منه، تراهم يؤلفون كتبا في «فشل الإسلام السياسي» و»أفول الإسلاميزم»، وفي الحالتين معا، فإن «خبراءنا» ينتهون إلى تحييد النخب الديمقراطية والحداثية ووضعها بين أقواس إسمنتية سميكة، كما لو أنها ليست ممثلة أو دالة. علاوة على أن قطاعات كاملة من ثقافة الإسلام «الدنيوية» ومن التاريخ المحسوس للمجتمعات المدروسة لا تشكل عندهم (وأكثر فأكثر عند الرأي العام الغربي) إلا ثقبا أسود، متعدد الأشكال والأبعاد، مولدا في جميع الأحوال لمواقف الطمس واللامبالاة، على حد تعبير بنسالم حميش.

m2pack.biz