«رهانات المعنى ومضمار الكلمة الغائبة»… «نحو الزمن إلا خطوة» للشاعرة السورية رولا الخش
فإذن «إلا خطوة» وحينها سنكون أمام استدعاءٍ لمفهوم الكلمة الغائبة «محمد أركون» وهنا لا ينبغي أن نستأذنه، ونحن نسحب ظلال هذا المفهوم من حقل الأنثروبولوجي إلى حقل الشعرية العربية آن نفوذنا إلى البنية الشكلانية تحليلياً وثقافياً إلى المنتج الشعري العربي الحقبوي عموماً وللإصدار الشعري «نحو الزمن إلّا خطوة» للشاعرة السورية رولا الخش.
لا شيءَ
إنه فقط التناقض الفوضوي الواقعي
لا شيءَ.. إنه الحب يحاول
أن لا يفرط جسده
مع هذا التوقيع ربما يضعنا النصُّ أمام محددات لقراءة شكلانية للمنتج الأدبي لا تتيح لنا أن نطالب أو أن نتوقع فيها مسلمات كلاسيكية تستمد مشروعها من داخل الجهاز المفاهيمي النمطي الذي يهيمن على الفاعلية الكتابية الشعرية العربية، وعندها سنستشرف في نسقية الكتابة عند رولا الخش استدراجاً للنص المستقبلي، الذي ينبغي أن يكتب ولم يكتب بعدُ إلى فخ المُدرك عنفه وتشوّهه وخطؤه ومسخه في الحاضر الآني المعاش في حقل يقين وجودي غزير:
أحبّ الذين ملؤوني نزقاً
حتى صرت نهراً
منعني بلطفٍ
عن تفجير
رؤوسهم
حين أموت
إلى البحر أعيدوني
أنا
لست تراباً
ولكنه استدراجٌ للنص المستقبلي واعٍ في ممارساته اللغوية في مماثلته للمرتبك المضلل وفي إتقان شعريته بارتباك وتضليل أيضاً، ولكن ليس تبنياً لجدوى هذه الأسلوبية بقدر ما هو فضحٌ لها على أنها أعظم ما أنجزناه، وبذلك تكتب لغة النصوص الخديعة بإخلاص إنها تترك الأناقة المعتادة في تشكيل روابط الدلالات بين الأنساق وهي واعية لذلك، وتنبهنا إلى وعينا بذلك وتترك ما يتم الترتيب له عادةً من تسلسلات في النصوص يسود احترامها في الاصدارات الشعرية، وتترك أيضاً ما يحرص الكتّاب على تركه للمتلقين من أجل أن يرسموا كاريزما كتابية لهم، وتترك أكثر من ذلك في إشارة إلى مفهوم (الكلمة الغائبة) التي تجعل من كل ما سبق آن حضورها في مهب يحلو لأركون تسميته:
«كلمة الأمل»:
صباح الخير أيها اللامرئي الذي يحلو لنا الاعتقاد بأنك
أكثر جمالاً من كل ما نعرف
وأكثر قسوة أيضاً
أيها المدهش
أرجوك أدهشنا الآن قليلاً
أخرج من سجنك مثلاً.. وتعرّى- أقول لك:
طيب.. اضحك قليلاً بصوتٍ مسموع وعلى الأقل
ساير بؤسنا البشري وحاول أن تموت
أريد كذبة كبرى
بحجم الحب
تنفي حقيقة القمر
فمن يبيع؟
وفي «اربع برتقالات وامرأة واحدة» تفتح الكتابة باب الرهان في مضمار اللغة الرهان على القدرة في تسطير أفق التوقع الاحتمالي لدى المتلقي في حقول دلالية تمارس اللغة فيها من حيث أنها طُعم «الكلمة الغائبة» في سنارة المعنى صيداً للذاكرات الجماعية والمخيلات الجماعية، وتترك غلّة الصيد في مهب الريح، ذاك أن الكلمة الغائبة هي التي يستوي فيها اللامفكَّر به مع ما ليس متاحٌ قوله, إنها الناجية من الحذف المقصود لتبدو مؤسسة اللغة كما يصفها رولان بارت فاشلة في تزوير الكتابة كما تحاولها رولا الخش بلغتها وحسب:
كلّ ما لدينا أننا نسير حفاة الرأس
على أرض زلقة
ثم ماذا بعد؟
سقط النيزك تكسّرت على جنباته الحكايا
لا قبل ولا بعد
شاحبٌ يتمدد
وحاضرٌ فيه ينحني
ويتبنى الرهان في هذا المضمار مادة أوّلية ومصدراً مغايراً من حيث المُعطى المتوفر المشتغل عليه في مجموعة النصوص المؤثثة لفضاء «نحو الزمن إلا خطوة» في محاولة تريدها الكاتبة أن تبدو غير مقصودة وهي تلامس تخوم الشاعرية المستقطبة لجمهور الشعر :
كأنك تشبه كلّ شيء سواكَ
كأنّك غادرت اليوم لتعود البارحة
دلّني على طرقات لا تعرّج فيها
كي أسقط من فمي خنجري
لا تكترث بي
فقط
إذهب نحوي
ويلفت الانتباه اللياقة التي تتوفر في بنائية النصوص وبنيتها في تفضيلها للواقعي الكتابي الفوضوي، ولكن بدون تكرار الخط السوريالي أو التكعيبي أو حتى فكرة تعطيل الحواس.. إلخ وأستطيع أن أصفها بأنها لياقة تبدو مستهترة ولكنها واعية في الوقت نفسه كيف تستهتر وبماذا في محاولة لمماثلة اللحظة الحرجة التي نمر بها في راهنية الحدث السوري من حيث أنها حقبة لا مثيل لها في الفداحة، فإذن الكتابة الشعرية أيضاً عليها أن تكون كذلك خارج النص وداخله إنها لا تتخذ أي ضابط سوى «الكلمة الغائبة» لعلنا نتوقف عن استجلاب البروتكولات القرائية الطقوسية مثلاً، أو التفسيرية أو البروتوكول اللساني النقدي ونحن بصدد التلقي منتبهين دائماً بأننا «نحو الزمن إلا خطوة» وعلى ذلك تلعب الكتابة دوراً خطراً وهي تتقدم تارةً للأمام نحو المباشرة وأخرى إلى الخلف نحو الغائب في ما نراه مباشراً :
هل كان علينا أن نسقط في البئر
لنكتشف أنه خاو من الماء
أم كان علينا أن نردمه لنسقط
في العطش..
وفي المسار البياني للفاعلية الشعرية المجددة في إطار المآل الكتابي نحصل على ذروة يمثلها نص «البار المفتوح على النسيان» في محاولة أعتقد أنها موفقة تبدو فيها النسقية في حالة عقد المقارنات المزوّرة بين ما يجب أن يكون عليه المبنى وما يلزمه من معان، بين ما هي عليه الكارثة واحتفاؤها بنا وبين ما ينبغي أن تمارسه الذات الشاعرة من تفخيخ الدهشة في غابة الدلالة في مماثلة لا مفرّ منها تشرح تطابق الذات الشاعرة مع المتلقي، بحيث أنه لم نعد نملك توزيع الأدوار بين عالم ومتعلم أو شاعر ومتلق أو عارفاً لنفسه وضائعين «فتحاول الكتابة أن تشطب ممارسة مزمنة لكل ما تأثرنا به تناصاً أو مشابهة مع المثل الأعلى:
وتسلّقي جدار الصوت
علّ الصمت ينفجر
علّ العناقيد التي في صدر الغاب تبكي
وتطرح العنب
علّ الأنبياء جميعاً
يلبسون وحياً في حضرة النبيذ
وينتحرون.
في اللمسة الأخيرة لهذه القراءة المغايرة سأشير إلى أن الفاعلية الكتابية الشعرية للجيل الذي تنتمي إليه رولا الخش تنجح لبرهة في أن تخرجنا من مختبرات النقد المنهجي المنجز إلى استراحة أمام فنجان قهوة الشك تمسك بتلابيب ياقاتنا البيضاء، وتشدنا إلى نافذة نطل منها على لهاث شعري لغوي مميت يطارد الكلمة الغائبة، لا بل يهددنا بها من حيث أننا وصلنا إلينا «إلا خطوة» إلّا كلمة غائبة إن حضرت سنبدو جميعاً في حالة ادعاء وافتراء جماعي مارسناه على ذواتنا فاستفقنا على ما تلاشى منا في ليلة الخديعة.
كلّ ما بي يندفع نحو الأمام
إلا أنا
أقف خلفي
كاتب سوري
باسم القاسم