«ذا لوبستر» حائز على جائزة لجنة التحكيم في مهرجان «كان»… الواقعيّة السحرية سينمائياً والعمى كأعلى درجات الحب
باريس «القدس العربي»: في الفيلم مشهدان قد لا يبدوان في مكانهما: الأوّل والأخير. المشهد الأوّل يبدو كأنّه استكمال لآخر، حيث نرى سيّدة لا نعرف من هي، ولا لماذا تفعل ما تفعله، تنزل من سيارة وتطلق النار على حمار. المشهد الأخير يبدو وكأنّه مقدّمة لمَشاهد تالية لا تأتي، حيث يبدو الفيلم وقد انقطع عنده، من دون أي تلميح بأنّ حكاية الحب الغريبة في الفيلم تنتهي عنده، حيث تنتظر الامرأة رجلها ليعود من التواليت، في مطعم.
يُعرض فيلم «ذا لوبستر» أو «جراد البحر» (The Lobster) في الصالات الفرنسية حالياً بعدما نافس على السعفة الذهبية في مهرجان كان السينمائي هذه السنة ونال جائزة لجنة التحكيم. هو الفيلم الناطق بالإنكليزيّة، الأول للمخرج اليوناني يورغوس لانتيموس، ولم يكن للفيلم هويّة واضحة كونه متعدّد دول الإنتاج، وكون الإنكليزيّة فيه مطعّمة بلهجات ومجانبة للفرنسية في بعض مشاهده.
المكان فيه غير محدّد، نشاهد مدينة وغابة ومنتجعاً على البحر، بملامح أوروبيّة لها، والزّمان كذلك غير محدّد إنّما بتلميح لما هو المستقبل القريب لأيّامنا هذه، والتمويه في المكان والزّمان بحيث لا يكونان محدّدين أو مسميين، وبحيث يكونان واقعيّين بالشّكل، يحيل إلى الحكاية نفسها، غرابتها، منطقها الخاص بها الذي ندخله منذ البداية ونكمل الفيلم كلّه به، والحكاية هي أقرب لما يُعرف في الأدب «بالواقعية السحرية» التي انتشرت أساساً في أمريكا اللاتينية، ومن أبرز روائييها الكولومبي غابرييل غارسيا ماركيز والأرجنتيني خورخي لويس بورخيس، إضافة إلى البرتغالي خوسيه ساراماغو صاحب رواية «العمى».
أمّا الحكاية، التي تجمع بين الواقعيّة والسّحريّة، فهي قصّة حب في الأساس، أنّما الغرابة فيها، السيريالية في بعض مناطقها، هو أكثر ما يميّزها. من البداية نعرف أن زوجة دافيد (كولين فاريل) تهجره إلى رجل آخر، فيُجبر على الذهاب والتسجيل في منتجع يبقى فيه 45 يوماً كي يجد شريكاً جديداً له وإلا سيتحوّل إلى حيوان يختاره هو، وقد اختار جراد البحر لأنه يعيش طويلاً وفي البحر ودمه أزرق ويبقى نشيطاً جنسياً.
يذهب إلى المنتجع ومعه كلبه، وهو أخوه وقد مرّ بالتجربة نفسها فصار كلباً، نتعرّف عليه من خلال أجوبته على أسئلة موظفّة الاستقبال لتعبئة الاستمارة.
هيئة دافيد مؤشر أساسي لتمهيد المُشاهد لحالة البؤس والفشل اللتين يمر بهما، بشعره وشواربه ونظّاراته وجسمه وطريقة لبسه ومشيه وحديثه ونظراته. هناك، في المنتجع، يمر بحالات مشابهة للنزلاء، لكل منها تعقيداتها، المنتجع أقرب بشروطه لمعسكر الاعتقال إنّما يوفّر وسائل الرّاحة الجسدية لمن فيه، محاولاً إيجاد علاقات بينهم. وهو منتجع مخصّص ل»الوحيدين»، حيث يدخلونه لعدد محدد من الأيام ولا يخرجون منه إلا متحوّلين إلى حيوانات أو ناجين من ذلك ضمن زوج من شريكيْن.
ولأنّ المنتجع أقرب للمعسكر، هنالك دائما فارون، أو ثائرون يقاتلون المنتجع والقائمين عليه، يخيّمون في الغابة، ولهؤلاء شروطهم المناقضة ظاهرياً لشروط المنتجع إنّما المماثلة بأسلوبها، فعلى الثّوار أن يكونوا فقط «وحيدين»، مُحرّم عليهم الدخول في علاقات. إن كان عقاب الاستمناء في المنتجع هو حرق الأصابع في مُحمّص الخبز فعقاب التقبيل في الغابة هو جرح الشفاه وإسالة دمائها.
لكن، على غرابتها، فالفيلم حكاية حب، بين دافيد وحبيبته غير المسماة في الفيلم (راتشيل فايز)، وهي الراوية في الفيلم، تحكي، من البداية، بصوت نسائي من خلف الكاميرا (فويس أوفر) حكايته، من دون أن نعرف تماماً من يحكيها، إلى أن يهرب دافيد من المنتجع، ملتجئاً إلى الغابة ليصير واحداً من الثوار، والراوي من خلف الشاشة ما يزال يتحدّث بين لقطة وأخرى، إلى أن تُثبّت الكاميرا على امرأة، في الغابة، تنظر إلى دافيد، ونسمع الصوت النّسائي يقول بأنّها: المرّة الأولى التي رأيتُه فيها. في واحدة من الإشارات الفنّية التي ساهمت في منح الفيلم جائزة لجنة التحكيم، وهي جائزة تخص البعد الفنّي للفيلم أكثر من غيره.
يلتقيان، دافيد وحبيبته، وتنشأ بينهما علاقة حب، في الغابة، ضمن شروط تحرّم الحب والعلاقات والقبل، وتفرض على الجميع البقاء «وحيدين». يبدأ الزوجان بالتدبير للهرب من مجتمع الثوار الذي تقوم بدور الزعيمة فيه الفرنسية الجميلة ليا سيدو، يحاولان تفاديها والهرب منها، تحاول هي إيذاءهما، إلى أن يصل الفيلم، وكذلك حكايته، إلى نهايته. أقول حكاية الفيلم تصل إلى النهاية، من دون أن يعني ذلك أن حكاية الحب فيه قد انتهت، فالفيلم ينتهي بالبداية الفعلية لها.
للفيلم منطقه الخاص ولذلك لن يسبب طرح أسئلة من خارجه إلا التشويش على حكايته، أسئلة تتعلق بالتحوّل لحيوانات، وأن يختارها صاحب العلاقة بذاته، وبالاشتراك بسمات معيّنة للشريكيْن كقصر النظر بين دافيد وحبيبته أو سيلان الدماء من الأنف بين اثنين آخرين حيث اضطر الرجل إلى مواصلة ضرب أنفه كي يقنع حبيبته بأنّه يناسبها فيتزوّجان.
لكن، إن كنت سأنهي المقالة بالمشهد الأخير، لا مجال للقول إلا أن الفيلم حكاية حب بالدّرجة الأولى، وذلك، أخيراً، لما سيفعله دافيد كي يبقى مع حبيبته. في الربع الأخير من الفيلم تُعاقب زعيمة الثّوار حبيبة دافيد بالعمى حين تعلم بعلاقتهما، فما كان منه فور هروبهما، وكي يستطيعان أن يكونا شريكين في علاقة بعدما كان كلاهما يعاني من قصر النظر، ما كان منه إلا أن يطلب سكيناً في المطعم حيث يجلس وحبيبته ويمسكه متّجهاً إلى التواليت، لفعل ما يلزم كي يبقيان معاً.
سليم البيك