أصل التخييل والتمثيل التاريخي

أصل التخييل والتمثيل التاريخي

أصل التخييل والتمثيل التاريخي

يحتاج تحديد مفهوم التخييل التاريخي بادئ ذي بدء إلى فهم المقصود من التخييل. وقبل هذا لا بد من تصحيح ترجمته إلى التخيل؛ فهذا الاصطلاح الأخير مُشتق من فعل «تخيل» الذي يُفيد التوهم، وتصورَ شيء لم يقع، أو غير موجود، أو التباس شيء بشيء. ولا صلة لهذه الدلالة بالتخييل الفني على الإطلاق، وتبنيه يُؤدي إلى الإساءة إليه، وإلى استنتاجات غير سليمة في صدد استعماله.
فأغلب الأدبيات النقدية في الفكر الغربي لا تُقيمه إلا في إطار الفهم الأرسطي للتمثيل، وإن كانت تربط استعماله بالحبكة على نحو يُخالف الغاية منه. وعلى العموم يُمْكِن فهم التخييل بوصفه فعلا يرتبط بالإيجاد والخلق (كما هما مُتضمنان في أصله اللاتيني)؛ فهو مُتصل- إذن- بالصناعة الفنية التي تأخذ على عاتقها تمثيل العالم، سواء أتعلق هذا التمثيل بنقل الموضوعات أو الحالات أو الأفعال. وقد نُضيف فنقول إنه تمثيل ينقل العالم بطريقة مُغايرة لما هو اعتيادي، بما في ذلك عدم نقل الوقائعي كما هو. وقبل بسط مفهوم التخييل التاريخي، لا بد من التذكير بكون استعماله قد ابتدأ مع القرن العشرين، وفي إطار الخروج عن منطق الرواية التاريخية في ارتباطها بتمثيل التاريخ فنيا، وكما أُرسيت معالمها مع كتابها الأولين مثل ألكسندر دوما وديكنز وغيرهما.
ويتطلب فهمه فهم الفرق بين اشتغال الكتابة التاريخية والتمثيل فيها غير الفني واشتغال التمثيل الفني في الرواية. كما يتطلب الأمر- قبل إنجاز هذه المهمة الأخيرة- الإشارة إلى أول من فكر في استنبات مفهوم التخييل في قلب التاريخ. ولم يسبق حسب علمي لأي مُنظر سواء أكان غربيا أم عربيا أن تنبه إليه. وأقصد بهذا الروائي الألماني هرمان هسه في راويته الشهيرة «لعبة الكريات الزجاجية»؛ إذ فكرتْ الشخصية الرئيسية فيها، وهي تدرس التاريخ، في كيفية التعامل معه، لا بوصفه معرفة مُفيدة في تكوينها فحسب، بل أيضا من زاوية اللعب، ووفق مسعاها إلى أن تصل إلى أعلى المراتب في المُؤسسة التي هي عضو فيها. وكان مُفاد المهمة التي حددتها لنفسها- في هذا الصدد- تقمص إحدى شخصيات التاريخ، بما يعنيه إسكان الحاضر في قلب الماضي، وما يقتضيه هذا من تخييل. وقد استعمل هرمان هسه مفهوم التخييل للتدليل على مثل هذا الإجراء في إعادة تفكر التاريخ؛ الشيء الذي يُحتم مُراعاة في مفهوم التخييل التاريخي هذا الأصل الذي لم يُتنبه إليه في الدراسات النقدية التي تناولته.
نتطرق- إذن- بعد هذا التذكير بالأصل إلى الفرق الدقيق بين التمثيل الفني في الرواية والتمثيل غير الفني في الكتابة التاريخية. وسنُقيم هذا الفرق على الحبكة والمادة. ونشير- ونحن نختار هذين المُكونين- إلى أننا لم نُوسع التخييل ليشمل الوسيلة الخطابية، والتشكيل الأسلوبي. ومما لا مراء فيه أن الرواية لا تُعاني من الحبكة، بل من المادة والتاريخ يُعاني- على العكس- من الحبكة لا من المادة (علبة السرد). ما معنى هذا الحكم النظري؟ إن أي رواية لا بد من أن تفترض- على مُستوى التمثيل- حبكة ما، وهي مجموع علاقات بين عناصر مُتنافرة تفضي في النهاية إلى تأسيس كل يلحمها (بول ريكور)؛ فمنطلق الروائي إيجاد هذه الحبكة، ولا يلقى في البحث عنها مُعاناة ما؛ لأن لا أحد يُحاسبه في اختياره هذا، وهو حر فيه لأنه يُعَد اختلاقا فنيا لا يقوم حسب مُطابقته الحقيقةَ، وإنما وفق المقبولية على مُستوى التصديق. لكن الرواية تُعاني من المادة، لا بوصفها موضوعا، وإنما بعَدها تفاصيل مُتصلة به؛ وهذه المُعاناة نابعة من جانبين: جانب عدم القدرة على استنفادها على نحو شمولي، وجانب كون الاختيارات في انتقائها تختلف وفق اختلاف الرؤية إليها، ووفق الإلمام المعرفي بها. أما بالنسبة إلى المُؤرخ فالتمثيل السردي يُعاني لديه من الحبكة، لا المادة؛ فهذه الأخيرة مُتوافِرة في المصادر والوثائق والمرويات الشفهية والسجلات. وتتمثل المُعاناة من الحبكة في كونه لا يستطيع خلقها بوصفها احتمالا مُسبقا، بل يكُون مُلزما بتكوينها بعد العثور على المادة مُحاولا بناء علاقات بين عناصرها انطلاقا من هاجس تفسيرها. وينبغي أن يكُون هذا البناء مُتطابقا من جهة مع الحقيقة، لا التصديق، ومن جهة ثانية مع طبيعة تفسير الحدوث الكامن وراء تشكل المادة. كما أن الحبكة المعنية بلم شتات المادة، التي يبنيها المُؤرخ، قابلةٌ لإعادة النظر فيها، وبناء حبكات أخرى من قِبَل مُؤرخين آخرين للمادة نفسها. وإجراء من هذا القبيل غير مطروح في الرواية، فما أن يكتب النص الروائي يصير نهائيا على مُستوى الحبكة والمادة.
كيف يُمْكِن- إذن- فهم الرواية التاريخية في إطار هذا الفرق؟ إنها تُحدِث نوعا من التسوية بين التمثيلين: تمثيل الرواية لما هو حدوث في حالة غياب، ومُفترَض فيه أنه مُختلق لا يحتاج إلى مطابقة الحقيقة، وتمثيل الكتابة التاريخية لما حدوث مُندرج في إطار الوقائعي، ومنظور إليه من زاوية خدمة الحقيقة. وتظهر هذه التسوية في كون الرواية التاريخية لا تُعاني من مُمْكِن العلاقات بين عناصر المادة كما الشأن في الرواية، فحبكتها تُختلق من قِبَل الكاتب، كما أنها لا تُعاني من المادة فهي مُتوافرة في سجلات الكتابة التاريخية. ومن ثمة فالحبكة تُعَد خلقا تاما على هدي من طبيعة المادة التاريخية (الحدوث)، حيث تَستلهم بناءها الفني انطلاقا من هذه الأخيرة. ويَمْثُل التخييل في هذا البناء بالضبط. وإذا كان الأمر هكذا فإلى أي حد يُمْكِن فصل التخييل التاريخي عن الرواية التاريخية ذاتها؟ لا يُمْكِن التحدث عن التخييل التاريخي خارج الأخذ بعين المُراعاة هذا التمييز؛ فهو الذي يسمح لنا بفهمه، وفهم الحاجة إليه. فهو نتاج تاريخ تطور كتابة الرواية التاريخية، ونتاج عدم الاكتفاء بتمثيل التاريخ انطلاقا من اختلاق حبكة فنية مُوازية تُعيد إنتاج الحدوث التاريخي وفق مدى مُطابقته الحقيقة؛ إذ ستأخذ الكتابة على عاتقها إعادة إنتاج المادة نفسها، والعمل على استنبات عناصر غير أصيلة فيها؛ أي مُعطيات حدثية لا تنتمي إلى لحظة الحدوث التاريخي الحقيقي. لكن فهم هذا الأمر يتطلب فحصا تطور الكتابة الروائية التاريخية من جهة أهدافها الأصيلة. وهذا ما سنعمل على إيضاحه في المقال المُقبل.
أديب وأكاديمي مغربي

m2pack.biz