الأنثربولوجيا والإسلام بين كلود ليفي شتراوس وكليفورد غيرتز
مثّل الأنثروبولوجي الفرنسي كلود ليفي شتراوس (1908- 2009) حلقة أساسية في ميدان الأنثربولوجيا خلال القرن العشرين، إذ جمع نتاجه بين التقليد الفرنسي المرتبط بعلوم الإنسان من جهة، والتقليد الأمريكي حول نسبية الثقافات من جهة أخرى. وقد مكّنه هذا الجمع من رسم نظرية جديدة في ميدان الأنثروبولوجيا، وهي نظرية البنيوية، وهذا ما بدا من خلال كتابه «البنيات الأولية للقرابة»، ولاحقاً من خلاله كتابه «العرق والتاريخ» الذي حاول من خلاله أن يخلق تحولاً تجاه الفكر البري لدى الشعوب البدائية، عبر إيجاد منهج صارم يهدف إلى فهم هذه الشعوب، ومسعى يهدف إلى التقريب بين الغرب وبقية الجنس البشري.
وقد خلقت أفكار شتراوس السابقة ردود فعل ونقاشات عديدة من قبل المثقفين خلال خمسينيات وستينيات القرن الماضي، وربما كان أهم هذه النقاشات من داخل الحقل الأنثربولوجي، هو النقاش الذي وجهه الأنثربولوجي الأمريكي كليفورد غيرتز لبنيوية ليفي شتراوس، انطلاقاً من اجتهادات جديدة ومن انفتاح على فكر ماكس فيبر، الذي يرى أن «الإنسان سجين شبكات من المعاني نسجها بنفسه»، ما ساهم في تكوين تيار جديد داخل الحقل الأنثربولوجي، عُرِف بالتيار التأويلي.
وما يلفت النظر في نتاج كلا الرائدين (شتراوس، وغيرتز) أن ملاحظة ودراسة الإسلام كانت جزءاً من رحلاتهم الميدانية. رغم أن اهتمامات شتراوس بقيت ثانوية في هذا الجانب، واقتصرت على ملاحظات سياحية أبداها الرجل في «عطلته العابرة» على حد وصفه داخل «المدارات الحزينة» (البرازيل والهند)، مقارنةً بالاهتمام الكبير الذي أبداه غيرتز في دراسة الإسلام المحلي في إندونيسيا أو المغرب، والذي أسفر لاحقاً عن عدد من الكتب مثل «الديانة في جافا»، و«سوق صفرو» في المغرب، و«الإسلام ملاحظاً». مع ذلك، فإن رؤية شتراوس حول الإسلام في كتابه «مدارات حزينة» أثارت وما تزال تثير نقاشاً بين الباحثين، حيال رؤيته للتجليات المعتقدية والطقوسية للإسلام. ولكن كيف قرأ كلا الأنثربولوجيَين الإسلام؟ ربما شاغل الإجابة عن هذا السؤال هو ما دفع عدداً من الباحثين المغاربة للمشاركة في الكتاب الذي صدر عن دار إفريقيا الشرق تحت عنوان «الأنثرولوجيا من البنيوية إلى التأويلية»، تنسيق محمد حبيدة/أستاذ الأنثربولوجيا التاريخية في جامعة ابن طفيل في المغرب.
فقد صدر كتاب «مدارات حزينة» عام 1955، وهو عبارة – وفقاً للباحثة فاطمة آيت موس- عن رواية متشظية تمزج في الوقت نفسه بين السيرة الذاتية وانتقال شتراوس إلى الأنثروبولوجيا، وفراراه إلى الولايات المتحدة الأمريكية عام 1941. ورغم أن الحيز الذي شغله الإسلام لم يكن مركزياً في هذا الكتاب أو في كتاباته السابقة، فإن ما تلاحظه الباحثة في هذا السياق، هو أن البعد الروائي الذي كان طاغياً على أسلوب شتراوس وهو يدون مشاهداته الرحلية وحواراته الذاتية، يختلف تماماً عما كتبه عن الإسلام، إذ تميز هذا الأسلوب بالمباشرة وأسلوب التقرير، وبمسحة سلبية ومستفزة أحياناً، وربما هذا الأسلوب هو ما دفع مترجم النسخة العربية للكتاب محمد صبح، الذي صدر عن دار كنعان، إلى التصرف في النص وحذف بعض هذه الإشارات، مع وجوب الإشارة هنا إلى ضرورة نقد هذا الأسلوب غير الأمين في الترجمة، كونه لا يخون النص وحسب، بل هو أسلوب غير علمي وبعيد عن دراسة ما كتب حول الإسلام، دراسة نقدية جادة.
وقد استهل كلود ليفي شتراوس حديثه عن الإسلام بمشهد كاشف ومعبر لكنه مختزل، من خلال استرجاعه للحادثة التي عاشها «على سفح جبال كشمير، بين راولبندي وبيشاور يرتفع موقع تاكشاسيلا، استعملت للوصول إليه خط السكة الحديدي، متسبباً من غير قصد في مأساة صغيرة. ذلك أن مقصورة القطار الوحيدة من الدرجة الأولى التي صعدت إليها كانت من الطراز القديم… كان منظرها يشبه في الآن نفسه مقطورة المواشي والصالون والسجن بالنظر إلى القضبان الواقية في النوافذ.. استقلّت المقصورة أسرة مسلمة مكونة من زوج وامرأة وطفلين.. كانت السيدة منقبة، وعلى الرغم من محاولتها الانزواء بحيث جلست مقرفصة على مرتبتها ملفحة بالبرقع، مدبرة بعنادها ظهرها إليّ فقد بدا الاختلاط شائناً ومخزياً. واقتضى الأمر انفصال الأسرة وتفرقها، إذ انتقلت المرأة والطفلان إلى العربة المخصصة للنساء فقط، بينما ظل الزوج يحتل بمفرده المقاعد المحجوزة، وهو يغتالني بنظراته. رضيت بما قسم لي في هذا الحادث، بسهولة أكبر في الحقيقة من رضاي بالمشهد الذي كان ينتظرني عند الوصول». من ناحية أخرى، حاول شتراوس أن يقارن بين الإسلام كثقافة في شبه الجزيرة الهندية، بما كان يجاوره ويعايشه من ثقافات وممارسات دينية مغايرة.
وقد أبدى في هذا الجانب تفضيلاً كبيراً للفن الهندي في علاقته بالتدين وانتقاء الألوان واختيار الملابس خلافاً لما كان يراه فرض المسلمين لألوان وحيدة رسمية. وانتهت المقارنة بكلود ليفي شتراوس إلى التساؤل عن الأسباب التي جعلت الفن الإسلامي ينهار بالتمام بمجرد أن بلغ ذروته، ويرد شتراوس هذا الأمر إلى أن الفن الإسلامي والعمارة الإسلامية ظلت تستند دوماَ إلى قاعدة الذهب أو الثراء المادي لا الروحي، يزدهر بتوفره وينهار بفقدانه. لأن الفنان المسلم محروم من أي اتصال جمالي بالواقع في ظل تكفير الصورة فقد القدرة على الخصوبة.
ورغم أن هذه الرؤية المعممة في حق دين معقد داخل حضارة متنوعة الأجناس والثقافات والتجارب التاريخية، تبقى من الزوايا الإشكالية في ملاحظات شتراوس، مع ذلك يرى الباحث لطفي بوشنتوف في دراسته «أثنولوجيا الإسلام في مدارات حزينة لكلود ليفي شتراوس» أنه لا بد من دراسة الظروف التي دفعت شتراوس إلى تدوين هذه الملاحظات السياحية حيال الإسلام. وبقراءة نقدية وشجاعة يُثنى عليها لهذا الجانب، يرى بوشنتوف أن هذا الكتاب قد يكشف لنا عن مرور شتراوس مطلع الخمسينيات في أزمة وجدانية ومعرفية حادة، بصمت آنذاك من دون شك ما فهمه وخبره عن الإسلام والمسلمين. لقد كانت الأزمة تمزقاً بين يقيناته وقناعاته القديمة ونزوع مطرد ومتنام إلى الانفصال عنها. وكانت مترتبة على شعور بالعجز أمام عالم بلغت قيمه من الكثرة مستوى لم يعد بالإمكان أن يتحكم الفكر فيها. وتجدد هذا الشعور، إن لم يكن استرساله وترسخه واتساعه، يفرض أن تكون قراءة حديث الإسلام في المدارات، أشبه باليوميات القلقة والمتسائلة، وأبعد ما يكون عن الحكم المتسرع والمعمم على الكتاب بكامله، أو على المشروع الرائد لشتراوس في حقل الفكر البري.
بالانتقال إلى رؤية المدرسة التأويلية وغيرتز للإسلام، يبين عبد الغني منديب/أستاذ علم الاجتماع في جامعة محمد الخامس، أن غيرتز سعى منذ مقالته «الدين كنسق ثقافي» إلى بلورة تعريف عام للدين، ينسحب على جميع الأشكال الدينية الممكنة، غير أن هذا البعد قد وُجِه بانتقادات عديدة لعل أهمها هو النقد الذي وجهه طلال أسد في كتابه «جينولوجيا الدين» تجاه هذا التعريف الكوني للدين، إذ يرى الأخير أن هذا التعريف يشكّل نقطة ضعف الخطاب الغيرتزي، نظراً لتجذر هذا التعريف في الخصوصية الثقافية للمسيحية الغربية. لكن بعيداً عن نقد الأخير، الذي يحتاج إلى تخصيص مادة أخرى، نجد أن غيرتز قد دعم في رؤيته التصور الفيبري للدين الذي يرى أنه لا تستقيم دراسة الهوية الدينية سوى بتناولها ضمن النسق الديني التي تشكل جزءاً منه، بالإضافة إلى السياق الاجتماعي الذي تندرج داخله. وعليه عمل على دراسة الإسلام في المجتمع المغربي في سياق التغير الاجتماعي، بمعنى وضعه داخل سياقه التاريخي.
بتحليل صورة «اليوسي» كما يتمثلها ويتداولها الخيال الشعبي المغربي، حاول غيرتز الكشف عن معنى البركة، بوصفها هبة وقوة يختص بها أناس معينون دون غيرهم. وتعكس مسألة امتلاك البركة سواء من مصدرها النسبي أو الإعجازي معظم دينامية التاريخ الثقافي المغربي. وترمز قصة اليوسي مع السلطان المولى إسماعيل إلى العلاقة القائمة بين البركة الانتسابية والبركة الإعجازية، وكيف تفرض الثانية على الأولى الاعتراف بها وإضفاء الشرعية عليها؟ بيد أن التحولات التي مست المجتمع المغربي انطلاقاً من تجربة الاستعمار، وظهور مؤسسات جديدة، مع استعادة السيادة الوطنية، غيرت هذه الصورة، إذ عمل المغاربة جاهدين على الحد من نضج هذه التناقضات التي نشأت بحكم هذه التغيرات. فقد اجتهدت الحركة الإصلاحية لتحول دون اصطدام الدين بالعلم.
ويخلص غيرتز إلى أن الحياة الدينية في المجتمع المغربي لم تعرف تغيراً كبيراً منذ نهاية الستينيات، تاريخ صدور كتابه «الإسلام الملاحظ» حتى بداية التسعينيات، تاريخ صدور الترجمة الفرنسية لهذا الكتاب، بسبب استمرارية النظام السياسي، ذلك أن المغرب، وبعكس بلدان إسلامية كثيرة، لم يفرض على الدين التكيف مع التغيرات العنيفة على هيئة وشاكلة السلطات المركزية. وتعتبر هذه الخاصية حسب غيرتز بمثابة صمام الأمان الحقيقي ضد كل الاحتجاجات الدينية، وهذا ما يفسر نجاح الدولة عبر السياسات الحكومية المتوالية في الحد من خطورة الحركات الإسلاموية التي بقي تأثيرها حبيس الجامعات وبعض المناطق الهامشية. لكن هنا لا يتفق عبد الغني منديب مع هذه الخلاصة المتمثلة في التقليل من شأن الحركات الإسلامية وتأثيرها على مسار الحياة الدينية في المجتمع المغربي، خاصة أن غيرتز كان قد ابتعد عن المغرب خلال العقدين الأخيرين، اللذين شهدا بروز وتطور دور الحركات الإسلامية، للدرجة التي بات فيها الإسلاميون من أهم الجماعات النشيطة على مستوى الحياة اليومية والسياسية المغربية.
كاتب سوري
الأنثربولوجيا والإسلام بين كلود ليفي شتراوس وكليفورد غيرتز
محمد تركي الربيعو