لعنة الفقر

لعنة الفقر

لعنة الفقر

(إلى أمي: علية عبود)
– إلى أين يا ربي.. إلى أين؟!.
أتلظى بجحيم فراشي المبلول، أتلظى مسحوقاً بالأسئلة ومخيلتي الحاشدة بأحاديث الفسق والانحطاط، أتقلب، أتقلى بانتظار الحفيف القادم بعد لحظات. الليلة حالكة بنجومها العاليات. أستلقي مثل ذبيحة وسط أخوتي العشرة في ساحة البيت الفسيح. سينسدل السكون، ويهمد اضطراب الأجساد المبعثرة جواري، سيتصاعد شخير أبي السكران بعد أن يتعب من محاولته معها، كنت أسمعها تهمس قائلة:
– شو.. شو.. لا تلح ‘سلام’ قاعد!.
تكرر القول بهمس يقابله خوار أبي الراغب وصوت احتكاك الجسدين تحت الغطاء، ثم يندمل كل شيء بالصمت إلا نفسي المنتظرة تلك اللحظة التي أرقتني منذ يومين. أغطس في هوة الجحيم، في الصمت، في الحلكة الغامرة، مستنجداً بمصابيح السماء العاجزات، بشخير أبي الذي بدأ بالتصاعد، بأجساد أخواتي وأخوتي، بالجدران، بالسماء، مكرراً بحرقة وجنون:
أتفتت كما الليلتين الفائتتين في صمت الفراش وأنا ألاحقُ إيقاع الحفيف المنبعث من السرير القريب، أعض أسناني بقوة تحت الغطاء والهواجس البذيئة تهجم عليّ من الحفيف، حفيف وكأنه أبواب جهنم. في الليلة الأولى أزحت الغطاء عن رأسي قليلا فرأيتها على ضوء النجوم الخافت تزيح الغطاء وتستقيم جالسة، تسكن للحظات منتظرة عودة شخير أبي الذي انقطع. تدلي ساقيها بحرص شديد ودون أن تصدر صوتاً مع انتظام الشخير الرتيب. تعدل وضع الغطاء. تستقيم بطولها الفارع وجسدها الرشيق، تخطو مقتربةً من فراشي في الطرف القريب من السرير، أطبق أجفاني متصنعاً النوم، تنحني نحوي، فأسمع أنفاسها اللاهثة لثوانٍ وهي تلفح بدفئها وجهي، أسمع حفيف خطوها، فأفتح عيني. أجدها تعدل أغطية أخوتي واحداً.. واحداً. ثم تبتعد بخطوات غير مسموعة متجهة صوب الدهليز القصير المؤدي إلى باب البيت. ظننت أول الأمر أنها ذاهبة لقضاء حاجتها، فالمراحيض جوار الباب عند مدخل البيت. فبقيت أنتظر عودتها، وعندما أفكر الآن بعد كل تلك السنوات، لم شككت بالأمر أجد أن طريقتها في التسلل تبعث الريب. انتظرت طويلا، لكن النعاس باغتني فسقطت في النوم، شغلني الأمر طوال النهار، وهجمت علي قصص عن تسلل الزوجات إلى عشاقهن السريين. قصص يرويها زبائن عمي الحلاق وسط المدينة، قصص يرويها مراهقو المحلة في أفياء تموز، غرائب ليل العصري الخليط من فلاحين مهاجرين لتوهم من قرى محقها الإصلاح الزراعي وملاكي الأرض من الإقطاع أواسط ستينات القرن العشرين، وبدو استوطنوا بعد أن تعبوا من الترحال، وضيق بيوت المدينة المتضخمة بالأجيال الجديدة، قصص تحكي عن الليل وحماقاته، عن زوجات الجيران اللواتي يتسللن إلى عشاقهن، أو يتسلل عشاقهن إلى أسرتهن تحت جنح الظلام، قصص أسمعها هجمت علي في اليوم التالي، فعدت أنظر نحو أمي بعينين مرتابتين، متخيلا أوضاع تجعل من دمي يفور فأود لو أهرب إلى جهة مجهولة لا يعرفني بها أحدٌ. تعمقت الهواجس في الليلة التالية، إذ عزمت على ملاحقتها لمعرفة أين تذهب؟. فانتظرت إلى أن ساد الصمت وتعالى شخير أبي رتيباً، وسمعتها تزيح الغطاء وتقترب مثل الليلة الفائتة منا لتعدل الأغطية، ثم رأيتها تتسلل على أطراف أصابعها إلى الدهليز. لبثتُ مدة قصيرة استنفدت فيها احتمال ذهابها لقضاء حاجتها. دفعت البطانية بقدمي بهدوء. غادرت فراشي حافياً. وخطوت على أطراف أصابعي نحو الدهليز. كان السكون مطبقاً لا يعكره سوى عواء كلاب متقطع بعيد، وشخير أبي المتقطع أيضاً. كان الدهليز شديد العتمة، قطعته نحو الباب المردود متمسكاً بالجدار. حدقت من ثقوب الباب. كانت الفسحة المرئية خاوية. لبثت خلف الباب منصتا لدقائق إلى ان وثقت من السكون. وسحبت درفة الباب مليما.. مليما. كان الشارع خاويا ولا أثر لها. انسدل ستار فلم أعد أرى شيئاً، أحسست بوجهي يلتهب وكأن أحدهم دلق عليّ ناراً سائلة. فعدت مسرعاً إلى فراشي، دخلت تحت الغطاء شاعراً بالبؤس والعجز وكأن أحدهم سحقني، وانفجرت باكياً بصمت. ظللت أبكي حتى تبللت مخدتي وسقطت من جديد في النوم.
– إلى أين يا إلهي.. إلى أين؟!.
سؤال ظل ينحر بي طوال اليوم، وبقيت أدور حولها وأتمعن في قسماتها الجميلة، وهي مشغولة بشؤون البيت، تعد الطعام في غرفة الطين على موقد نفطي بدائي، وتغسل ملابسنا في طست بطرف الحديقة. لم يخف عليها أمري، فلديها فراسة غريبة، أمسكتني من كتفي وقالت:
– يمه أش بِكْ؟!.
زاد اضطرابي وعيناها الواسعتان تغوران بعيني في محاولة لمعرفة ما يدور في رأسي. كدت أن أعترف لها، لكنني خشيت من هول الأمر. فتحاشيت عينيها ناظراً إلى تراب الساحة قائلا:
– ما بيَّ شيء.. ما بيَّ شيء!.
رفعتني بيدها القويتين من تحت كتفي، قائلة:
– شيل رأسك وأنظر بعينيّ!.
أنصعت لأمرها ونظرت إلى عينيها القويتين أيضاً. أنزلتني قائلة بصوت حنون:
– أش بِكْ يا ولدي؟!.
أنفلت من يديها، وركضت نحو باب البيت لأضيع في الحقول المجاورة حتى نزول المساء. وأي جحيمٍ قضيته في الحقول الشاسعة والسواقي مشيت حتى أدميت قدمي وبكيت حتى نشف دمعي وكنت أصرخ في البرية بين الفينة والفنية:
– يا ربي وين تروح أمي بالليل ويييييييييييييييييييييييييييييين يا ربي؟!.
* * *
– الليلة لازم أعرف وين تروح؟!.
قلت مع نفسي ذلك، وعزمت على التسلل خلفها.
كمنتُ تحت الغطاء متتبعاً خطواتها المبتعدة نحو الدهليز. أزحت الغطاء. ألمت بيّ رعدة أرجفت أضلعي وجعلتني أتلكأ قليلا في النهوض. شددت من عزمي متذكراً قصة كيد النساء العظيم وحكاية النبي يوسف التي سمعتُ تفاصيلها من الشيخ وهو يروى لنا حكم الحياة من على منبر جامع العصري في ليالي رمضان.
– أتكون أمي يا ربي مثل زليخة!.
طفقت أرتعشُ تحت ضوء النجوم. اضطربت خطاي. خشيت من الدهليز، فانحرفت نحو باب غرفة البيت الحجرية. توجهت نحو كوى النافذة الأربع الأقرب إلى باب البيت، التي يتسرب من خلالها ضوء مصابيح الشارع الضعيف. ضاقت بي الدنيا وأنا أطل على السكون وخواء الصمت العاوي في ضجة رأسي، ضاقت ولا أثر لأمي ولا حفيف. غادرتُ النافذة خائضاً في حلكة الغرفة، تحت النجوم العاليات، في عتمة الدهليز مستدلاً بذاكرة النهار وظلال ضوءٍ مثل وهمٍ يتسرب من درفة باب الدار المردود. خلدت خلفها متلصصاً هنيهة. وبغتةً هاجمتني روائح كريهة جعلتني أستدير مظاهراً شق الدرفة المنفرجة لأعبَّ من هواء الدهليز رائحته. عدت ومددت بصري من خلال شق الباب فانفتح الشارع الميت أمامي من جهة الجامع.
– أين ذهبت يا ربي؟!.
لم يكف السؤال عن التردد في كل لحظةٍ. تضرعت إلى الخالق وتساءلت:
– أية محنة تضعني في باطنها يا إلهي، ولماذا.. لماذا؟!.
وفي لب ذلك السكون فارَّ دمي، وطفح غضبي. كدت أن أنطح الباب برأسي حرقةً وغلبةً وتعباً، في تلك اللحظة سمعت حفيف ثوبها الأليف يقترب من الباب من الجهة غير المرئية لموقع وقفتي. ارتددت هلعاً إلى نهاية الدهليز، لكن الحفيف انقطع خلف الباب. سكنت في العتمة منصتاً لصوتٍ خافت غريب، ثمة شخص يفعل شيئاً أمام الباب. تجرأتُ مقترباً من الباب وسحبت الدرفة بهدوء فرأيتها تنحني نحو خزانة المرحاض المفتوحة لتدلي سطلاً مشدود بحبلٍ طويل، وتغرف حتى ملأت تنكة صفيح، حملتها على كتفها وخطت نحو فسحة خالية كانت تفصل العصري عن المدينة. فتحت الباب وتتبعتُ خطواتها إلى أن غابت في الظلام. فانفجرتُ في نشيجٍ طويلٍ لاعناً الفقر.
عندما أيقظتني في الصباح كي أجلب خبزنا من الفرن. أمسكتُ بكفيها الطاهرتين، وأنهلت عليهما بالتقبيل حتى بكيت مرددا:
– يمه يا يمه، يمه يا يمه!.
وهي تكفكف دموعي وتطيب خاطري دون سؤال وكأنها علمت بأنني عرفت.
بعد أكثر من أربعين عاماً هاأنذا، في أول ليلة لي في رحمي الأول أخطو من نقطة فتحة المراحيض حتى حافة الساحة التي بنيت بالبيوت مستعيدا خطواتها المباركة المكافحة رائياً طيفها حياً يسير جواري في عمق هذا الليل الفريد.
18-10-2013
كوبنهاجن

m2pack.biz