مُثَقَّفُو الإمْبرَاطُور

مُثَقَّفُو الإمْبرَاطُور

مُثَقَّفُو الإمْبرَاطُور

لَم يَكُنِ الطِّفْلُ، وهُو يَصْرُخُ مِنْ بَيْنِ جُمُوعِ المُصَفِّقِين: «الإمْبرَاطُور عارٍ»، يَفْضَحُ الإمبْراطُورَ، بل مَنْ أوْهَمُوا الإمْبرَاطُورَ، مِنْ حاشِيَتِه وخَدَمِه، وَمنْ يَجْرُون خَلْفَه من المُسْتشارِين وأصْحاب الرَّأْي، بأنَّ الثَّوْبَ الَّذِي يَرْتَدِيه، هُوَ ثَوْبٌ خارِقٌ، ويَبْعَثُ الدَّهْشَة في مَنْ يراهُ، وأنَّ ما يراهُ الإمْبرَاطُورُ عراءً، يراهُ غَيْرُه، من «رَعِيَّتِه»، شَيْئاً عَجِيباً، لا مَثِيلَ لَهُ، ولَمْ يَسْبِق لأحدٍ لَبِسَهُ قَبْلَه.
مَنْ يَجْرِي خَلْفَ الإمْبرَاطُور، خَدَعَ الإمْبرَاطُورَ، وَأَخْرَجَهُ عارِياً، بلا لِباسٍ. «الشَّعْبُ»، أو «الرَّعِيَّةُ»، بالأحْرَى، هُمْ أيْضاً خَدَعُوا الإمْبراطُورَ، لأنَّهُم خَنَعُوا، وخَضَعُوا، صَفَّقُوا، وهَلَّلُوا، وهُم يَتوَهَّمُونَ أنَّ ما يَجْرِي، لا بُدَّ أنْ يَكُونَ هكذا، ما دامَ الأمْرُ يتعلَّق بالإمْبرَاطُور. ما يَفْعَلُه الإمبراطُور، كُلَّه صَوابٌ، والإمْبْراطُور لا يُمْكِنُه أن يُخْطِئَ، أو يَفْعَل شَيْئاً يَمَسُّ بِجِسْمِه، أو بعَقْلِه، لأنَّ فيه شَيْئا من اللَّهِ، أو هو ظِلُّ اللَّه في أرضه.
الطِّفْلُ العَالِقُ في غُصْنِ شَجَرَةٍ، رَأَى ما يَنْبَغِي أنْ يُرَى، وقالَ ما يَنْبَغِي أنْ يُقالَ. لَمْ يُخَايِل لِنَفْسِه، ولا للإمْبرَاطُورِ، ما يُزَيِّنُ لَهُ الكَذِبَ، أو ما فَسُدَ من الأشْياء. فَهُو ليس من حاشِيَة الإمْبرَاطُور، ولا مِن تابِعِيه، أو من مُسْتشارِيه، وهو لَمْ يَدْخُل، بَعْدُ، في زُمْرَةِ «الرَّعِيَّةِ»، لأنَّ براءَتَه تَسْبِقُه، وعَيْنُه لا تُخْطِئُ الرُّؤْيَة، أو تُحَرِّفُها، فَجِبِلَّةُ وسَجِيَّةُ الإنْسان فيه عالِيَة، ولم تَخْرُج عن سِياقِ الطَّبِيعَة، أو البَشَرِيِّ فِيهِ، باعْتِبار البَشَر، بطبيعَتِهم، لَهُم عَقْل به يُفَكِّرُون، ويَمْلِكُون ما يكفِي من الذَّكاء، في رُؤيَة الأشياءِ، وفي فَهْمِها، وتَفْسِيرِها، أو تأوِيلِها.
إذا كانَت مِثْلُ هذه الخُدَعِ، تَجْرِي على الخانِعِين، التَّابِعِين، مِمَّنْ اسْتَهْوَتْهُم الطَّاعَةُ إلى الحَدِّ الذي جَعَل من الطَّاعَةِ تُصْبِح إذْلالاً وكَذِباً وتَدْلِيساً، وتَجْرِي على العامَّةِ، أو «الرَّعاع»، فَهِيَ لا تَجْرِي على مَنْ لَمْ يَفْقِدِ الطِّفْلَ الرَّاقِدَ فِيه، أو العاَلِقَ في رَأْسِه، في فِكْرِه وعَقْلِه، هذا الطِّفْل الذي تَسْتَهْوِيه «الحقيقة»، يقول ما يراهُ، لا ما يَتَخايَلُ إلِيْه، أو يَرْغَبُ في رُؤيَتِه، بِغَيْرِ ما هو عليه.
المُثَقَّف، هو هذا الطِّفْل، وهو لَمْ يَخْرُجْ من نَفْسِه، من جِبِلَّتِه، ومن سَجِيَّتِه التي تَفِيضُ عن نَفْسِه، مهما توسَّعَ في فَهْمِه، وفي معرفَتِه. ألَيْسَ «الطِّفْل أبُ الرَّجُل»؟ كما قال فرويد، في سياقٍ، مهما يَكُن، فهو لا يَبْعُد عن هذا المعْنَى، أو يَنْبُو عَنْه كثيراً.
مُثَقَّفُو الإمْبراطُورِ، هُم مُثَقَّفُون يَسْتَهْوِيهِم العَراءَ، يُلْبِسُون المَعْرِفَة ثَوْبَ الجَهْلِ والكَذِبِ، يُجمِّلُون القَبِيحَ، ويُقَبِّحُون الجَمِيل، الأبْيَضُ عندهُم أسْوَد، والأسْوَد أبْيَض، لا مُشْكِلَةَ عندهُم في أنْ يَلْبِسَ اللَّيْلُ قَمِيص النَّهارِ، ويَصِيرَ النَّهار هو اللَّيْل، رَغْم أنَّهُما، في الواقِع، لا يَجْتَمِعان. هذا ما كان يقُومُ به وُعَّاظ السَّلاطِينِ، وما قامَ به الفُقَهاء، و«رِجال الدِّين»، وَمْن يقرأ كُتُب «الآداب السُّلْطانِيَة»، سَيَجِد الكثير من هذه الأمُورِ التي بَدا فيها السَّلاطِينُ، فَوْق كُلِّ شيءٍ، ولَوْ كان السُّلطانُ ظالِماً، مُسْتَبِدّاً، وفاسِداً. ف«سُلْطانٌ جائِرٌ أفُضَل من لَيْلَةٍ بِدُون سُلْطانٍ». وهذا معناه، في هذا السِّياق، تَزْيِينُ الجَوْرِ والاستبداد، وتَبْرِيرِهما، بدعوى الحِفاظ على أمانِ النَّاس، وعلى أمْنِ البلادِ. أليس هذا، تَزْيين العَراء، للإمبراطُور الفاسِدِ، الجائرِ، المُسْتَبِدِّ، الطَّاغِي، والقاتِل؟
اليوم، اسْتعاضَ الإمْبراطُورات عن الفُقهاء، والوُعَّاظ، وأصْحاب «الآداب السُّلطانية»، بالمُثَقَّفِين، وهؤلاء كان خَطَرُهُم أكبر وأعْظَم، لأنَّهُم لَمْ يَدْخَلُوا بَيْتَ الإمبراطُور من بابِ الدِّين، بل إنَّهُم دَخلوه من بابِ الحداثة، والعَقْل، ومن بابِ الَّتَّنْوِير، وادِّعاء الحُرِّيَة، ومُقاوَمَة الاستبداد والفساد، ما يعْنِي، أنَّ هذه القِيَم، أو الشِّعارات، حتَّى نقُولَ الأمُورَ بالطِّفْل الكامِنِ فينا، أصْبَحَتْ في يَدِهِم بلا قيمَة، وبلا مَعْنًى. فَقَدَتْ مَضْمُونَها، أو ما وُجِدَتْ لَهُ عند هؤلاءِ، عندما كانُوا يَسارِيِّين، تَقَدُّمِيِّين، أصْحاب مبادِئ وأفْكار، وأصْحاب عَقْل يُفَكِّر بعيداً عن إغْراءات السُّلْطَةِ والمالِ.
إنَّ خَطَر هؤلاء، يُوجَدُ في كَوْنِهِمُ، خَرَجُوا من جُلُودِهِم، انْقَلَبُوا على ما كَتَبُوهُ، وما ادَّعَوْهُ، لَمْ يدْخَلُوا في طاعَةِ الإمْبراطُور بِفِكْرِهِم، وبمشروعهم المُجْتَمَعِيّ، أو السِّياسي والاقتصادي، بل إنَّهُم خَلَعُوا قُمْصانَهُم هذه، في عَتَبَة البَيْتِ، ولَبِسُوا حُلَلَ البَلاطِ، وبدل أنْ يُضِيئوا للإمبراطُور الطَّرِيق، بما عندَهُم من أفْكارٍ، عَتَّمُوها عليه. لَم يَعُد لَهُم لِسان لِلْجَهْر بالحقيقة، فلِسانهم أصْبَح صالِحاً فقط، لتزيين الفاسِد، ولِتَبْرِير القراراتِ، والمواقف، التي تَبْدُو للجميع غير سَدِيدَةٍ، وغير ذات فائدَة. فأصبح مُثقَّف الأمس، صاحِب الفِكْر اليَقِظِ، لا فِكْر لهُ، بل إنَّ فِكْرَه دَخَل في غَفْلَةِ نَوْمٍ طويلِ وعَميقٍ، هو نومُ السُّلْطَة، حين تَسْتَبِدُّ بالمثقف، تأكُلُه، وَتَشْرَبُ من عقله وفِكْرِه، ويُصْبِح أداةً، أو قِطْعَة غيارٍ لا تَصْلُح لشيء، لأنَّها فَقَدَتْ أسْنانَها، وصَلاحِيَتَها في العَمَل، وتَحْرِيك عَجلاتِ المُجْتَمَع، وتَحْرِيره من الهَيْمَنَة والاسْتفراد بالسُّلْطَة والقرار.
مثل هؤلاء، هُم من أنْتَجُوا الديكتاتورياتِ في العالَم، وأَوْهَمُوا الإمْبراطُورات، والحُكَّام، والسَّلاطِين، بأنَّهُم أكْبَر من المُثقفين، وأهمّ منهم، وأنَّ لا شَيْءَ يجري على الأرض إلا بأمْرِ الإمبراطُور، وأنَّ ما يراهُ الإمبراطُور لَيْلاً في وَضَح النَّهارِ، فهو لَيْلٌ، ولا وُجُود للنَّهارِ، ومن قال إنَّ هذا نَهار، فهو إمَّا طِفْل، ينبغِي أن يَكْبُر ليرى الأمور بصورةٍ واضِحَةٍ، أو هو شَخْصٌ خارِجٌ عن الإجماع، يجب بَتْرُهُ، والحجر عليه.
المثقف، هو شَخْصٌ، لا يلعب دَوْر الفقيه نفسه ، أو الوَاعِظ، ولا «رجل الدِّين». المُثقَّف، هو طِفْلُ الإمْبراطُور، وليس من يَخْدَعه، أو يُوهِمه بأنَّهُ يلبسُ ما لا يلبسُه غيره، فهذا حين يَحْدُث، يكون هذا المُثَقَّف، خانَ نَفْسَه، وخانَ الإمبراطُورَ، وخانَ عَقْلَه، وقَتَل في نفسِه الطِّفْلَ الذي هو من يُوقِظُه من نَوْمِه، ومن غَفْلَتِه، ويُنَبِّهُهُ إلى شَهْوَةِ السُّلْطَةِ، وجَبَرُوتِها، وما تَفْعَلَهُ في من تَسْتَبِدُّ بهم، تَمْتَصُّهُم، وتأْكُلُهم، بدون أن يَبْقَى لهم رأيٌ، أو إرادة، لأنَّهُم أصبحوا آلَةً، في ماكِينَةٍ طائِشَةٍ، تَدُور بلا رادِعٍ، ولا وَازِع.
شاعر مغربي

m2pack.biz