ما بين الأساطير وتعاقب الأجيال واستحداث الشكل الحكائي القصة التونسية… أزمة النشأة والتأريخ

ما بين الأساطير وتعاقب الأجيال واستحداث الشكل الحكائي.. القصة التونسية… أزمة النشأة والتأريخ

ما بين الأساطير وتعاقب الأجيال واستحداث الشكل الحكائي.. القصة التونسية… أزمة النشأة والتأريخ

تونس «القدس العربي» من عبد الدائم السلامي: لا يخلو حديثٌ عن نشأةِ فرعٍ من فروع المعرفة والفنّ من اضطرابٍ تأريخيٍّ، مبعثُه – في أغلب حالاته – وقوعُ الباحث تحت سُلطةِ انتماءاته الحضارية، أو الوطنية، أو الفئوية أو الأيديولوجية أو العِرْقية، أو العقائدية أو الجمالية. وهو أمرٌ تبدو فيه الرغبة في نسبةِ نشأةِ المعارفِ والفنون إلى الذّات – مفردةً كانت أو جماعيةً – دَليلاً على إحساسِ الناسِ بهشاشةِ حاضرِهم، وسبَبًا يُقوى فيهم الهبَّةَ إلى حَشْدِ كلِّ ما من شأنه أنْ يدعمَ حضورَهم في الواقع، ويكون سبيلَهم إلى إشعار الآخر بأنّهم مساهمون معه في صناعةِ حضارةِ الإنسانِ. ومن الهَبَّاتِ ما لا تتكئُ على حقيقةٍ تاريخيةٍ تُزكّيها، فترى أصحابَها ينبشون وقائعَ الماضي باحثين فيها عن سندٍ يُلبّي نزوعَهم إلى «امتلاكِ الأسبقيّة» في مجالٍ من مجالاتِ الفعل البشريّ. وحين يُعْوِزُ هؤلاءِ إثباتُ شيءٍ في التاريخِ من خلقِ أسلافهم فإنهم غالِبًا ما ينحرفون بهذا النزوع صوب توهُّمِ «أسبقيّاتٍ» توهُّمًا يُجافي الحقيقةَ، أو يصنعُها من عدمٍ، يفعلون ذلك بِلَيِّ أعناقِ الأحداثِ، كي يُكسِبوا توهُّمَهم صِدْقًا لا يعرِفُه.
حكاية الحمار الذهبي
وممّا يدخل في باب ذاك التوّهم، ما اتصل بنشأةِ القصة التونسيّة، حيث توزّعت آراء الباحثين في ذلك على ثلاثة أنواع: رأيٌ أوّلُ يقول إنّ ظهور القصة في تونس كان منذ القرن الثاني للميلاد، وقد كتبها النوميدي لوكيوس أبوليوس، وتحمل عنوان «المسوخ» أو «الحمار الذّهبي»، وهو ما ذهب إليه الباحث التونسيّ جلّول عزّونة في كتابه «في الفنّ القصصي» دار سحر للنشر، تونس 1990، حيث يقول إنّ «لهذا الفنّ جذورا تمتدّ في الزمان. فهو في تونس يرجع إلى عهود ما قبل الإسلام وكذلك إلى الجذور الشعبية العميقة المتوارثة لحكم الأجيال والحضارات واللغات». ويُضيف قولَه شارِحًا قَدَامةَ هذا الفنّ في تونس: «ونحن نعلم أخيرا أن تونس أو إفريقيا لها رصيدها التراثي الهائل في ميدان القصة. فقد أنجبت هذه التربة القَصّاص المشهور عالميا: أبيلوس صاحب قصة: المسوخ أو الحمار الذهبي». ومتى تجاوزنا صعوبة تحديد جغرافيا الكيانات السياسية التي وُجدت في شمال إفريقيا في تلك الفترة التاريخية – وهو أمرٌ يصعب معه الحديث عن انتماء دقيق للكاتب أبيلوس إلى تونس أو الجزائر، وَفْقَ ترسيماتهما الجغرافية الراهنة – وقفنا على وقوع الباحث في تناقض فنّي صورتُه تأكيده من جهة أولى أنّ «المسوخ» قصة، والحال أن هذا الأثر الأدبي قد صُنّف أوّلَ رواية تصلنا من تلك الأزمنة، إذْ توزّع على أحد عشر فصلا وتضمّن، فضلاً عن حدثه الرئيس، سبعَ عَشْرة قصّةً، وهو ما لا يستجيب لشرط القِصَرِ في فنّ القصة. ومن جهة ثانية نلفيه يذهب بعيدا في مقارنة نصّ أبيلوس بنصّ ألف ليلة وليلة وذلك في قوله: «وقد أنتجت تونس أثرا قصصيا أقل حجما من ألف ليلة وليلة، ولكنه ذو قيمة لا تُنكر وهو: مئة ليلة وليلة».
سهرة غرناطة الأخيرة
ويخالف الرأيُ الثاني غلوَّ رأيِ الباحث جلول عزونة بخصوص نشأة القصة التونسية، وتمثّله دراساتٌ يمكن الاطمئنان إليها من جهة ما فيها من تنسيبٍ لزمنِ تلك النشأة، نذكر منها دراسةً أنجزها القاص والروائي رضوان الكوني «الكتابة القصصية في تونس خلال عشرين سنة 1964- 1984» منشورات قصص عدد19، تونس 1993. واتكأ فيها على مجموعة من المراجع والوثائق الأرشيفية، وجاء فيها تأكيده أنّ أوّل قصّة تونسية ظهرت عام 1905، حيث يقول: «في هذه السنة بالذات 1905، ظهرت أول قصة تونسية، ففي مجلة «النهضة الشمال إفريقية» العدد الثالث، مارس/آذار 1905، نقرأ أول قصة تونسية كتبها بالفرنسية حسن حسني عبدالوهاب، وكانت بعنوان «السهرة الأخيرة في غرناطة، وأمّا أول قصة نشرت بالعربية فقد كانت الهيفاء وسراج الليل لصالح السويسي المنشورة في مجلة «خيرالدين» في العددين 6 و7 سنة 1906». وفي الشأن نفسه وصف يوسف المرعَشلي، في مؤلَّفه «نثر الجواهر والدّرر في علماء القرن الرابع عشر» ط.1، مج. 1، دار المعرفة، بيروت- لبنان، 2006، القاصَّ التونسيَّ صالح السويسي بقوله إنه «يُعتبَر أبا القصة في تونس والمغرب العربي، ومن كُتّابها الأوائل في العالَم العربي، وله في بعض كتاباته ملامح القصة»، ويُضيف هذا الباحث قولَه ملخّصًا مضمون قصة السويسي: «وبطله (سراج الليل) في اليمامة في الجزيرة العربية، وأمّه (الهيفاء) تركية مثقّفة لها اطلاع على الحركات الفكرية في العالم الإسلامي، وأبوه متوفٍّ، وشاءت أمّه أن يرتحل إلى مصر ليكرع من موارد العلم، وفي طريقهما إلى مصر مرّا بلبنان، وأستاذه ومرشده في مصر هو محمد رشيد المصري، وربّما كان المقصود به هو الشيخ محمد رشيد رضا». ولا تخفى حالةُ الحيرة التي كان عليها يوسف المرعَشلي وهو يحاول تجنيس قصة السويسي، وظاهر تردده في ذلك بين أمرين: أولهما أن يُنمِيها إلى فنّ القصّة، وهو ما جاء في وصفه لها بأنّها «رواية قصصية في فصول أراد منها تلخيص نظراته الإصلاحية وما يعرفه عن هذه الحركة، وبسط فلسفته في الحياة ونظرته للمجتمع»، وثانيهما أن يُنْميها إلى فنّ الرواية على غرار قوله: «وهي أوّل رواية صدرت في تونس على ما فيها من نقص كضعف العقدة الروائية».
الأجيال القصصية
ويبدو الرأي الثالث أكثر وعيًا تاريخيًّا وفنيًّا بنشأة القصة في تونس، حيث تجاوز أصحابُه مسألةَ الحديث عن أوّل قصة تونسية وعن تحديد سَنةِ كتابتها إلى الحديث عن فترةِ ظهورها وأسبابه، من ذلك ما جاء في كتاب «إنشائية القصة القصيرة، دراسة في السرديّة التونسية» الوكالة المتوسّطية للصحافة، تونس 2005 لمحمد القاضي، إذْ يقول: «لئن بدأت القصة التونسية حييّة في أواخر القرن التاسع عشر والثلث الأول من القرن العشرين فسيطر عليها النموذج التراثي أساسا، فإنها وجدت مناخا مناسبا في الثلث الثاني من القرن العشرين. وقد اضطلعت في ذلك بعض المجلات بدور جوهري، وخاصة «العالم» والعالم الأدبي» والمباحث» وغيرها». ونشير إلى أن محمد القاضي، وهو يوزّع كُتّاب القصة التونسية إلى أجيال ثلاثة، لم يذكر اسمَ مُؤسِّسٍ من مؤسِّسيها الفاعلين وهو القاصّ علي الدوعاجي الذي قال عنه الأستاذ توفيق بكّار إنه «أبو القصة التونسية».
وقد أكّد محمّد الباردي في أحد مقالاته مذهبَ محمد القاضي القائل، إنّ القصّة التونسية إنّما هي وليدةُ الثلث الأول من القرن العشرين في قوله: «لم تكن الكتابة القصصية الحديثة في تونس حديثة العهد، بل تمتد جذورها إلى بداية هذا القرن وهي بذلك تنخرط في المسار التاريخي العام الذي مرت به التجربة الإبداعية السردية المعاصرة عند العرب إذْ غلّب الوعي الاجتماعي بضرورة الاستفادة من بعض أشكال الأدب، لمواصلة الرسالة الاجتماعية المتمثلة في الإصلاح والدعوة إلى التنوير، على الوعي الفني بالمقومات الأساسية للنص القصصي».
القصة التونسية كفن مُستحدث
ولئن كان يصعب على البَحْثِ تحديدُ لحظةِ ظهورِ القصّة التونسية تحديدا دقيقًا، نظرًا إلى تنامي اختلاف النقاد حولها، فإنّ ما نطمئنّ إليه في تجاوز هذا الاختلاف هو تأكيد أنّ القصّة «فنّ مستحدَث، ظهرت بواكيره بعد ظهور عدة أعمال قصصية ناجحة في المشرق العربي»، على حدّ ما جاء في كتاب «حسني سيّد لبيب ورشيد الذوادي: اتجاهات القصة التونسية القصيرة» دار الإتحاف للنشر، تونس 2000.
وقد وجد كتّابُها الأوائلُ أرضيةً مساعدة على كتابتها، وصورةُ ذلك تضافر عوامل ثقافية واجتماعية وسياسية مع بعضها بعضًا لتكون حافزًا لظهور بواكيرها الأولى.
٭ كاتب تونسي
ما بين الأساطير وتعاقب الأجيال واستحداث الشكل الحكائي: القصة التونسية… أزمة النشأة والتأريخ

m2pack.biz