مظاهرة قرائية ساخطة ضد الروايات الخاملة
ما أن أُعلن عن القائمة الطويلة للجائزة العالمية للرواية العربية (بوكر) حتى بدأ عدد من القراء في اقتناء وقراءة الروايات المتأهلة، كما يحدث كل عام على إيقاع التأجيج والسجال والترقّب، وهي مبادرة تأتي في صميم فعل المثاقفة، إلا أن ردود الفعل التي تُنشر تباعاً في مواقع التواصل الاجتماعي، وفي حسابات تلك الفئة من القراء الجادين، تعكس خيبة أمل كبرى في معظم الروايات المقروءة.
وأظنها ستنال أيضاً حتى من القائمة القصيرة التي كُشف عنها يوم الخميس الماضي، وتلك وجهات نظر ينبغي عدم التغافل عنها أو التعامل معها كمزاج شخصي لا يُعتد به، لأن الأدلة تتابع وتتراكم بشكل يؤكد على تواضع مستوى الروايات، بل ضحالة بعضها، أما التعبير القرائي عن عدم الرضا فيشير إلى بروز قارئ ساخط لا على المستوى الذي تكتب به الروايات وحسب، بل ضد لجان التحكيم، والمؤسسات المتعهدة بتلك الجوائز، بالإضافة إلى دور النشر التي تبالغ في الترويج لمنتجات روائية فاسدة، وكل ذلك ضمن مهرجانية تقوم على التكاذب وغش القارئ.
كل رواية ترسم معالم قارئ من نوع ما، وهي بالتالي معنية بتحريك خبراته اللغوية واللالغوية، أي ممكناته خارج النص وداخله، وعندما يصادف القارئ رواية لا تبني له موقعاً داخلها تعتريه نوبات من الغضب والاستهجان والقطيعة، مع حيثيات الرواية الموضوعية والفنية، وهذا حقه، فهو في نهاية المطاف (المروي له) حسب التعبير النقدي، الذي لا يقبل أي سردية مصطنعة، عاجزة عن توليد المعاني، خصوصاً ذلك القارئ المزود بالوعي الناقد، الذي يتجادل بوعي مكشوف مع روائي يقر بسلطته كقارئ، أي الروائي الذي يشبع خبراته الحياتية والثقافية ولا يتلاعب به في متاهات لفظية وحيل حدثية مفتعلة، بمعنى أن القارئ الذي يصرح بمقروئيته إزاء القائمة الطويلة للبوكر وأخواتها، إنما يسجل احتجاجه على عدم الاعتراف به كقارئ نوعي على حافة النصّ، وأن الروائي الذي يمثل دور الروائي النموذجي لم يتمكن من استدعاء القارئ النموذجي.
يحدثنا التاريخ الأدبي عن اللحظة المفصلية التي تولّد فيها الجمهور القارئ الجديد، الذي هيأته المدارس الحديثة وصولاً إلى القارئ النموذجي، بصفته أسطورة معرفية/جمالية بشكل ما من الأشكال، حيث صار هذا القارئ محلاً لأهم الاشتغالات النقدية، وذلك في سياق التلازم البنيوي ما بين نظريات وجماليات التلقي، وبين التجديد في تاريخ الآداب، وإعادة تشكيل أفق الانتظار، من منظور الناقد الألماني هانز روبرت ياوس، ومنذها صار القارئ النموذجي، الذي يختزن خبرات الوعي الناقد، هو ضالة الروائي ورهابه في آن، أي ابتناء قارئ بمواصفات خاصة، ولكن يبدو أن الروائي العربي يتحرك بمعزل عن ذلك التطور اللافت في تحولات مفهوم التلقي، كما أنه لا يبذل من الجهد المعرفي والفني، أو ربما لا يمتلك القدرة على إعادة ميثاق قراءة ينهض على مجادلة القارئ داخل النص اعترافاً به كسلطه جديدة، أو حتى الإقرار بالطابع النشيط والخلاق لفعل القراءة، لأنه لا يعي أو ربما لا يريد استيعاب مفهوم الرقابة الواعية التي يبديها القارئ من منطلقات فنية وموضوعية.
معظم الروائيين العرب يكتبون اليوم لقارئ صنعته الميديا، قارئ مقهور ومُضّلل بسلطة الجوائز، لا لقارئ ضمني هو بمثابة منتج ثانٍ للنص، حسب أدبيات التلقي.
وهذا هو ما يفسر مستوى الروايات التي تسعى لتحييد وعي القارئ وتحجيم خبراته، وفي هذا إخلال بفكرة التعاضد التأويلي لتفعيل النصّ، إذ لا كتابة حقيقية بدون هذا الميثاق القائم على مشاركة القارئ للروائي في هواجسه ومعارفه، ومشاطرته وعي ولاوعي الرواية، وهنا بالتحديد تكمن سرّ الغضبة القرائية، ومغزى التظاهرة الآخذة بالاتساع، فالقراءة ليست مجرد مطالعة لسطح النصّ، كما يحاول بعض الروائيين توجيه القارئ، إنما هي شكل من أشكال المنهج، لأنها تقوم على التخمين والاستنتاج والتأويل والتلذُّذ، لا على الاستقبال السلبي، وبمجرد استبعاد القارئ النموذجي من وعي الروائي، ينتفي وجود الروائي النموذجي تلقائياً، لأن الميثاق لا يؤسسه طرف واحد، وهنا نقطة الافتراق ما بين القارئ ومعظم ما يُنشر من روايات.
الإحساس بالارتياب ميثاق تخييلي ضمني أصيل وضروري بين الروائي وقارئه، من منظور الشاعر الإنكليزي صموئيل كولريدج، ولذلك ليس بمقدور الروائي حصر القارئ في قالب من قوالب التلقي، أو ضمن مقروئية أحادية لا تقبل التعدّد، مفروضة عليه من الروائي باعتباره جزءاً من النص، لأن القارئ يتحرك في فضاء النص بمقتضى المعاني الزائدة التي يُدخلها على النص، والقيم الجمالية التي تفتح آفاق ومديات التأويل على اتساعها، لا بموجب الوظيفة التعليمية التلقينية التي تزدحم بها تلك الروايات، ولذلك يتجلى فعل القراءة كلما صادف القارئ منظومة من الحيل الدلالية والتداولية التي يستزرعها الروائي لاستدعاء القارئ النموذجي وابتناء موقعه، أي تفخيخ النص بمنبهات التأويل والتخييل، وهي أبعاد تفتقر إليها تلك الروايات المعروضة في واجهة المشهد باعتبارها رحيق التجربة الروائية العربية.
وعليه، يمكن القول بأن آراء القراء المبعثرة في مواقع التواصل الاجتماعي ليست مجرد ردات فعل وقتية ضد رواية أو روائي، إنما تشكل أحد مجسات المشهد الروائي، إن لم تكن أهم معاييره، لأنها خارج الحسابات والتحالفات وفي صميم أفق التلقي.
هذه الروايات التي يقرر القارئ التوقف عن مواصلة قراءتها بعد صفحاتها الأولى لا يمكن التعامل معها ضمن ما يسميه أمبرتو إيكو بالآلة الكسولة، التي تحتاج إلى وقود القارئ لتحريكها، بل هي نصوص خاملة، وربما ميتة، لأنها كُتبت بوعي روائي يعرف تماماً من هو قارئه، بمعنى أنها روايات ليست مكتوبة لقارئ نموذجي يجس النصّ بوعي ناقد، إنما تنتخب قارئها الانبساطي الذي لا يمتلك أي خبرة حياتية أو قرائية، أي ذلك القارئ الذي لا يمكن بأي شكل من الأشكال أن يستجوب الروائي، أو أن يتحول إلى سلطة، وهذا هو ما تراهن عليه تلك الروايات الرافضة لفكرة التفاعل ما بين وعي القارئ والنص، وتمزيق كل خيوط التواصل المرئية واللامرئية ما بين موضوعية الرواية وآلية استقبالها، لأنها روايات تُسقط القارئ المتعارف عليه في جماليات التلقي من حسابها، وتسمي كل من لا يبدي الاعجاب بها بالقارئ الساخط.
كاتب سعودي