قراءة في أدوار مثقفي النهضة العربية.. جمال الدين الأفغاني والإرتهان للمرجعيات
عانت النهضة العربية من انحراف تمثل بما يمكن أن نطلق عليه أزمة النموذج، خاصة لدى مثقفي عصر النهضة العربية، ومنهم جمال الدين الأفغاني (1838-1897)، وتجلى ذلك من خلال الارتهان لعدد من المرجعيات ضمن سياق بنيوي، أدى إلى أزمة منهجية. بداية ينبغي التأكيد على أن المرجعيات تعني قيمة سلطوية مؤسساتية مطلقة، بغض النظر عن تمظهرها، فالمرجعية تمارس إغواءها، وجبروتها على التفكير الحر الذي ينبغي للمثقف أن ينطلق منه، وتحديداً في بحثه عن حلول للأزمة الحضارية، وتعليل ذلك يعود لوجود أزمة (نموذج) لدى مثقفي تلك المرحلة، فالارتكان لمرجعيات منجزة، كان يبدو حلاً سهلاً، وهذا عائد إلى عدم قدرة المثقف على الابتكار، والانتصار لقيم العقل والحرية بمعناها المثالي، بل أن معظم رواد النهضة العربية كان معانقاً لأكثر من مرجعية، ومنها السلطة السياسية والدين والطائفة والآخر الغربي، وحتى تقديم الذات على القيم الجمعيّة، وهكذا فإن هذه المرجعيات ما برحت تتعإلى لتقوض دور المثقف، وتجعله فارغاً بلا دلالة، أو معنى.
ما من شك في أن من أهم الشخصيات التي مارست نفوذاً على تموضع خطاب النهضة جمال الدين الأفغاني، غير أن مراجعة نقدية ربما تقود إلى بعض الملاحظات، وقوامها أن الرجل كان رهين عدد من المرجعيات، إذ تشير الدلائل إلى أن الأفغاني كان أسير تصوراته الذاتية تجاه التعاطي مع أزمة الأمة، وهو أقرب إلى منطق السّياسي الذي يسعى إلى قيم ذاتية، ورؤى تتقاطع مع السلطة، التي كان يقترب منها بمقدار ما تحقق له مطالبه وتطلعاته، والدليل على ذلك أن تمويل الأفغاني من أجل إصدار مجلته، وغير ذلك من تكاليف أسفاره التي جاءت عبر جمعيات، وأسماء غامضة (إبراهيم العريس، 41). هذا يعني أن الأفغاني كان مرتهناً لهذه الجهة، أو تلك، فمعظم المصادر تذكر أن الرجل كان وثيق الارتباط بالسلطة العثمانية، بل أنه كان يتميز بتعدد الولاءات، إذ كان على علاقات بالفرنسيين، والروس من جهة، ولكنه كان في معظم الأحيان مرتهناً كلياً لصالح الدولة العثمانية، بوصفه موظفاً لديها من جهة أخرى، من منطلق أن هذه الدولة تمثل خط الدفاع الأول لمواجهة الأطماع الغربية كما كان يتصور الأفغاني (العريس، ص 35)، غير أن الدولة العثمانية كانت تجسد في الواقع نمطاً مناوئا للفعل النهضوي، ولاسيما في مناطق نفوذها، فالدولة تحرص على بقائها، وهيمنتها، بوصفها إمبراطورية، بيد أنها كانت تعاني على مستوى النظم الإدارية، وكذلك الفكرية.
وهكذا نخلص إلى أن الرجل لم يكن يتمتع باستقلالية تامة، ما ينفي عنه صفة المثقف الحقيقي الذي ينبغي أن يسعى إلى حرية الفكر في سبيل الخروج من الأزمة الحضارية، فالمثقف في ذلك الزمن لم يكن قادراً على اجتراح رؤى وتصورات تتصل بالتكوين الداخلي لواقع الأمة، وهذا يعني قصوراً في تفعيل عملية التحليل النقدي، ومراجعة الأمور في ضوء متغيرات ذلك العصر. إن التمسك بالأنساق القائمة، ولاسيما في بعديها السلطوي والفكري، إذ قد ضيقت على مفكري النهضة العربية – ومنهم الأفغاني – القدرة على إدراك معنى بناء الأنا في سياق قيم علمية إنسانية بمعزل عما هو سائد، وهنا نقع على أشد أزمات الفكر العربي عمقاً، وتتمثل بعدم القدرة على الانفصال عن كل ما يحيط به من أنساق، حيث لم يسارع إلى ابتكار الحلول في ضوء خصوصية المشكلات، فعملية الاستناد إلى النموذج هي أبرز وأعقد مشكلة في عملية تحديد الشكل الذي يمكن أن نشيّد من خلاله مشروعا فكريا نهضويا، وهنا تتبدى الإشكالية في مستوى الأفكار وشكلها.
ثمة توجس من عدم وجود حواضن يلجأ لها المثقف، وهذا المسلك ما زال قائماً إلى يومنا هذا، فالمثقفون «بوصفهم أفراداً منذورين للحقيقة» لا وجود لهم في عالمنا العربي، ولهذا نجد أن بعض السلطات تسارع إلى التعاطي مع بعض الأصوات المثقفة عبر احتضانها، أو عبر إقصائها، ولكن ما يحتاج إلى التّأمل هذا السلوك الذي يمتثل له المثقفون من منطلق نزعة «العصبة» التي ما تفتأ تمارس نفوذها على الفكر العربي، وقد سبق لابن خلدون أن أشار لها، فالمثقف العربي لا يؤمن بقدرة الأفكار من دون عصبة، أو مجموعة، تحتضنها، وهذا ما يعني شكلاً من أشكال المؤسسة المجتمعية التي يمكن أن تكفل حالة من الإسناد، وهذا في النهاية سوف يجهز على المثقف ودوره على حد سواء.
ينبغي ألا ننكر أن ما يسمى بالنهضة العربية ما هو إلا مرحلة حتمية لأي أمة وجدت ذاتها في الظرف التاريخي الذي يتطلب إعادة إنتاج ذاتها، وهذا يدعوها للانقياد نحو التحديث، فالنهضة لم تكن خياراً، أو فعلاً نتيجة قوى داخلية، وأزمة جدلية، فالأمر برمته إرهاص لاحتكاك المنطقة العربية مع الغرب، وعلى ذلك فالنهضة كانت نتاج المشروع الاستعماري، سواء أكان قبولاً للهيمنة، أو رفضاً لها (أي في سياق ردة الفعل)، فالفعل كان رهين مؤثر خارجي، ومع ذلك، فإن كليرك ينفي عن مثقفي الأطراف صفة الخونة، كونهم أسهموا بطريقة أو بأخرى في مواجهة تحديات الزمن الذي كانوا ينتمون له (ص 143). إن صفة المثقف الحقيقي الذي يمتلك مخاضه الخاص، ويعمل على تفعيل العوامل العقلية بهدف خلق منظومة فكرية لا تعمد إلى استلهام نموذج الأقوى، أو استحضار الماضي الأقوى، لا تنطبق على رجال عصر النهضة العربية الذين حاصرتهم الحيرة، والارتباك، والتي صبغت أفكار الجيل الأول، وكذلك الجيل الثاني.
ما من شك في أن الارتكان لفكر ديني ناجز، يبدو جلياً عند مراجعة دور جمال الدين الأفغاني، حيث كان يرى أن الاعتقاد الديني المشترك يمكن أن يكون أداة للتآلف، والترابط في المجتمع الإسلامي الساعي للنهضة، بل عده شرطاً للتقدم كما يقول ألبرت حوراني (ص149-149). وفي سبيل إنجاح هذا المسعى فقد سعى الأفغاني إلى السمو على الاختلاف العقائدي، عبر محاولة خلق حالة من التصالح والوئام بين السنة والشيعة، كما يشير ألبرت حوراني في معرض تحليله لفكر الأفغاني (ص 146)، وهكذا فالأفغاني لم يتمكن من الانخلاع عن دوره، أو موقعه في المؤسسة السلطوية حيث عمل، وعاش في كنف السلطة، ومنها سلطة الخليفة العثماني، وهكذا نجد أن معظم المرجعيات التي يدين لها مثقفو النهضة، ومنهم الأفغاني كانت ذات طابع ديني، أو سياسي فلا عجب أن يصفهم كليرك بأنهم ورثة رجل الدين (ص 132).
لم يكن الأفغاني في رده على أرنست رينان حول ادعائه بأن الإسلام يغلق العقل ويصادره، ينطلق من الرغبة بالدفاع عن الإسلام بمقدار ما كان استجابة لرغبة نخب تلك المرحلة التي حاولت أن تقيم حدوداً لنهضة، تؤطرها مرجعيات دينية وطائفية، علاوة على مصالح فردية ترتبط بالسلطة، أو بنموذج مثالي، كالقومية العربية، بالتوازي مع وجود تلك النزعة بعدم إدراك إشكالية الذات إلا في ضوء مواجهة الآخر الغربي، وهذا ما يعني النقيض المقابل، الذي يقوم بعامل المحفّز على الفعل، وهكذا نجد أن فعل التنوير والنهوض لدى بعض مثقفي النهضة العربية كان في معظم الأحيان يرتبط بمنظومة من العودة، أو الارتهان لنموذج الدولة الدينية وفكرها، أو لنموذج الدولة بغض النظر عن شكلها، وفي معظم الأحيان كان يتوسل عبر استجلاب نسق غريب أو خارجي، وهكذا نبقى في سياق متواليات من الأنساق المؤسساتية التي تعيد إنتاج نفسها عبر عملية تحديث، لا نهضة.
كاتب فلسطيني الأردن
رامي أبو شهاب